وبين خلقه في تبليغ دينه ، ليس لهم من الأمر شيء. وفي قوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده ، أن ينزل عليهم الكتب ، ويرسل إليهم الرسل ، فلا تقتضي ربوبيته تركهم سدى ولا هملا. وإذا كان ما أوتي النبيون ، إنما هو من ربهم ، ففيه الفرق بين الأنبياء وبين من يدعي النبوة ، وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه ، فالرسل لا يدعون إلا إلى الخير ، ولا ينهون إلا عن كل شر ، وكل واحد منهم يصدق الآخر ، ويشهد له بالحق ، من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). وهذا بخلاف من ادعى النبوة ، فلا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم ، كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع ، وعرف ما يدعون إليه. فلما بيّن تعالى جميع ما يؤمن به ، عموما وخصوصا ، وكان القول لا يغني عن العمل ، قال : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ، أي : خاضعون لعظمته ، منقادون لعبادته ، بباطننا وظاهرنا ، مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول ، وهو (لَهُ) على العامل ، وهو (مُسْلِمُونَ). فقد اشتملت هذه الآية الكريمة ـ على إيجازها واختصارها ـ على أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات. واشتملت على الإيمان بجميع الرسل ، وجميع الكتب ، وعلى التخصيص الدال على الفضل ، بعد التعميم ، وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك ، وعلى الفرق بين الرسل الصادقين ، ومن ادعى النبوة من الكاذبين ، وعلى تعليم الباري عباده كيف يقولون ، ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة. فسبحان من جعل كتابه تبيانا لكل شيء ، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
[١٣٧] (فَإِنْ آمَنُوا) ، أي : فإن آمن أهل الكتاب بمثل ما آمنتم به ـ يا معشر المؤمنين ـ من جميع الرسل ، وجميع الكتب ، الذين أول من دخل فيهم ، وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن ، وأسلموا لله وحده ، ولم يفرقوا بين أحد من الرسل (فَقَدِ اهْتَدَوْا) للصراط المستقيم ، الموصل لجنات النعيم ، أي : فلا سبيل لهم إلى الهداية ، إلا بهذا الإيمان ، ولا كما زعموا بقولهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه. و «الهدى» هو العلم بالحق ، والعمل به ، وضدّه الضلال عن العلم ، والضلال عن العمل بعد العلم ، وهو الشقاق الذي كانوا عليه ، لما تولوا وأعرضوا ، فالمشاق : هو الذي يكون في شق ، والله ورسوله في شق. ويلزم من المشاقة ، المحادة ، والعداوة البليغة ، التي من لوازمها بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول ، فلهذا وعد الله رسوله ، أن يكفيه إياهم ، لأنه السميع لجميع الأصوات ، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات ، العليم بما بين أيديهم وما خلفهم ، بالغيب والشهادة ، بالظواهر والبواطن ، فإذا كان كذلك ، كفاك الله شرهم. وقد أنجز الله لرسوله وعده ، وسلطه عليهم ، حتى قتل بعضهم ، وسبى بعضهم ، وأجلى بعضهم ، وشرّدهم كل مشرد. ففيه معجزة من معجزات القرآن ، وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه ، فوقع طبق ما أخبر.
[١٣٨] (صِبْغَةَ اللهِ) ، أي : الزموا صبغة الله ، وهو دينه ، وقوموا به قياما تاما ، بجميع أعماله الظاهرة والباطنة ، وجميع عقائده في جميع الأوقات ، حتى يكون لكم صبغة ، وصفة من صفاتكم. فإن كان صفة من صفاتكم ، أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره ، طوعا واختيارا ومحبة ، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة ، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية ، لحث الدين على مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ومعالي الأمور. فلهذا قال ـ على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية ـ : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) ، أي : لا أحسن صبغة من صبغته. وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ ، فقس الشيء بضده : فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا ، أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح ، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن ، وفعل جميل ، وخلق كامل ، ونعت جليل ، ويتخلى من كل وصف قبيح ، ورذيلة وعيب. فوصفه : الصدق في قوله وفعله ، والصبر والحلم ، والعفة ، والشجاعة ، والإحسان القولي والفعلي ، ومحبة الله