وخشيته ، وخوفه ، ورجاؤه ، فحاله الإخلاص للمعبود ، والإحسان لعبيده. فقسه بعبد كفر بربه ، وشرد عنه ، وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة ، من الكفر ، والشرك ، والكذب ، والخيانة ، والمكر ، والخداع ، وعدم العفة ، والإساءة إلى الخلق ، في أقواله ، وأفعاله ، فلا إخلاص للمعبود ، ولا إحسان إلى عبيده. فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما ، ويتبين لك أنه لا أحسن من صبغة الله ، وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه. وفي قوله : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) بيان لهذه الصبغة ، وهي القيام بهذين الأصلين : الإخلاص والمتابعة ، لأن «العبادة» اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال ، والأقوال الظاهرة والباطنة ، ولا تكون كذلك ، حتى يشرعها الله على لسان رسوله. والإخلاص أن يقصد العبد وجه الله وحده ، في تلك الأعمال ، فتقديم المعمول يؤذن بالحصر. وقال : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار ، ليدل على اتصافهم بذلك.
[١٣٩] (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) ، المحاجة هي : المجادلة بين اثنين فأكثر ، تتعلق بالمسائل الخلافية ، حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله ، وإبطال قول خصمه ، فكل واحد منهما يجتهد في إقامة الحجة على ذلك. والمطلوب منها أن تكون بالتي هي أحسن ، بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق ، ويقيم الحجة على المعاند ، ويوضح الحق ، ويبين الباطل. فإن خرجت عن هذه الأمور ، كانت مماراة ، ومخاصمة لا خير فيها ، وأحدثت من الشر ما أحدثت. فكان أهل الكتاب يزعمون أنهم أولى بالله من المسلمين ، وهذا مجرد دعوى ، تفتقر إلى دليل وبرهان. فإذا كان رب الجميع واحدا ، ليس ربا لكم دوننا ، وكل منا ومنكم له عمله ، فاستوينا نحن وأنتم بذلك ، فهذا لا يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره ؛ لأن التفريق مع الاشتراك في الشيء ، من غير فرق مؤثر ، دعوى باطلة ، وتفريق بين متماثلين ، ومكابرة ظاهرة ، وإنما يحصل التفضيل ، بإخلاص الأعمال الصالحة لله وحده. وهذه الحالة وصف المؤمنين وحدهم ، فتعين أنهم أولى بالله من غيرهم ؛ لأن الإخلاص هو الطريق إلى الخلاص. فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، بالأوصاف الحقيقية ، التي يسلمها أهل العقول ، ولا ينازع فيها إلا كل مكابر جهول ، ففي هذه الآية إرشاد لطيف لطريق المحاجة ، وأن الأمور مبنية على الجمع بين المتماثلين ، والفرق بين المختلفين.
[١٤٠] وهذه دعوى أخرى منهم ، ومحاجة في رسل الله ، زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين. فرد الله عليهم بقوله : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) ، فالله يقول : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦٧) ، وهم يقولون : بل كان يهوديا أو نصرانيا. فإما أن يكونوا هم الصادقين العالمين ، أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك ، فأحد الأمرين متعين لا محالة ، وصورة الجواب مبهم ، وهو في غاية الوضوح والبيان ، حتى إنه ـ من وضوحه ـ لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق ، ونحو ذلك ، لانجلائه لكل أحد ، كما إذا قيل : الليل أنور ، أم النهار؟ والنار أحرّ أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك. وهذا يعرفه