كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك ، ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء ، لم يكونوا هودا ولا نصارى ، فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة ، فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم. ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) ، فهي شهادة عندهم ، مودعة من الله ، لا من الخلق ، فيقتضي الاهتمام بإقامتها ، فكتموها ، وأظهروا ضدها ، جمعوا بين كتم الحق وعدم النطق به ، وإظهار الباطل ، والدعوة إليه ، أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله ، وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة. فلهذا قال : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، بل قد أحصى أعمالهم ، وعدها وادّخر لهم جزاءها ، فبئس الجزاء جزاؤهم ، وبئست النار مثوى للظالمين. وهذه طريقة القرآن في ذكر العلم والقدرة ، عقب الآيات المتضمنة للأعمال التي يجازى عليها. فيفيد ذلك الوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، ويفيد أيضا ذكر الأسماء الحسنى بعد الأحكام ، أن الأمر الديني والجزائي أثر من آثارها ، وموجب من موجباتها ، وهي مقتضية له.
[١٤١] ثم قال تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) تقدم تفسيرها ، وكررها ، لقطع التعلق بالمخلوقين ، وأن المعول عليه ، ما اتصف به الإنسان ، لا عمل أسلافه وآبائه ، فالنفع الحقيقي بالأعمال ، لا بالانتساب المجرد للرجال.
[١٤٢] (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) ، قد اشتملت الآية الأولى على : معجزة ، وتسلية ، وتطمين قلوب المؤمنين ، واعتراض ، وجوابه ، من ثلاثة أوجه ، وصفة المعترض ، وصفة المسلم لحكم الله دينه. فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس ، وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم ، بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن ، وهم اليهود والنصارى ، ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه. وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس ، مدة مقامهم بمكة ، ثم بعد الهجرة إلى المدينة ، نحو سنة ونصف ـ لما لله في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها ، وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة. فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) وهي استقبال بيت المقدس ، أي : أيّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه ، وفضله وإحسانه ، فسلاهم وأخبر بوقوعه وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه قليل العقل ، والحلم والديانة ، فلا تبالوا بهم ، إذ قد علم مصدر هذا الكلام ، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه ، ولا يلقي له ذهنه. ودلّت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله ، إلا سفيه جاهل معاند ، وأما الرشيد المؤمن العاقل ، فيتلقى أحكام ربه بالقبول والانقياد والتسليم ، كما قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية. (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا). وقد كان في قوله «السفهاء» ما يغني عن رد قولهم ، وعدم المبالاة به. ولكنه تعالى ـ مع هذا ـ لم يترك هذه الشبهة ، حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض ، فقال تعالى : (قُلْ) لهم مجيبا : (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، أي : فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله ، ليس جهة من الجهات خارجة من ملكه ، ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة إبراهيم ـ فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله ، لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له؟ فهذا يوجب التسليم لأمره بمجرد ذلك ، فكيف وهو من فضل الله عليكم ، وهدايته وإحسانه أن هداكم لذلك ، فالمعترض عليكم ، معترض على فضل الله ، حسدا لكم وبغيا. ولما كان قوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مطلقا ، والمطلق يحمل على المقيد ، فإن الهداية والضلال لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله ، وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية ، التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى ، كما قال تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ). ذكر في هذه الآية السبب الموجب لهداية هذه الأمة مطلقا بجميع أنواع الهداية ، ومنة الله عليها ،