فقال :
[١٤٣] (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) ، أي : عدلا خيارا ، وما عدا الوسط فالأطراف داخلة تحت الخطر.
فجعل الله هذه الأمة وسطا في كل أمور الدين ، وسطا في الأنبياء ، بين من غلا فيهم كالنصارى ، وبين من جفاهم كاليهود ، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك ، ووسطا في الشريعة لا تشديدات اليهود وآصارهم ، ولا تهاون النصارى. وفي باب الطهارة والمطاعم ، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم ، ولا يطهرهم الماء من النجاسات ، وقد حرمت عليهم الطيبات عقوبة لهم ، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئا ، ولا يحرمون شيئا ، بل أباحوا ما دب ودرج. بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها. وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح ، وحرم عليهم الخبائث من ذلك ، فلهذه الأمة من الدين أكمله ، ومن الأخلاق أجلّها ، ومن الأعمال أفضلها. ووهبهم الله من العلم والحلم ، والعدل والإحسان ، ما لم يهبه لأمة سواهم ، فلذلك كانوا (أُمَّةً وَسَطاً) كاملين معتدلين ، ليكونوا (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط ، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان ، ولا يحكم عليهم غيرهم ، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول ، فهو مقبول ، وما شهدت له بالرد ، فهو مردود. فإن قيل : كيف يقبل حكمهم على غيرهم ، والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض؟ قيل : إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين لوجود التهمة ، فأما إذا انتفت التهمة ، وحصلت العدالة التامة ، كما في هذه الأمة ، فإنما المقصود الحكم بالعدل والحق ، وشرط ذلك العلم والعدل ، وهما موجودان في هذه الأمة ، فقبل قولها. فإن شكّ شاكّ في فضلها ، وطلب مزكّيا لها ، فهو أكمل الخلق نبيهم صلىاللهعليهوسلم ، فلهذا قال تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم أنه إذا كان يوم القيامة وسأل الله المرسلين عن تبليغهم ، والأمم المكذبة عن ذلك ، وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم ـ استشهد الأنبياء بهذه الأمة ـ وزكاها نبيها. وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة ، وأنهم معصومون عن الخطأ ، لإطلاق قوله : (وَسَطاً) ، فلو قدر اتفاقهم على الخطأ ، لم يكونوا وسطا ، إلا في بعض الأمور ، وفيها اشتراط العدالة في الحكم ، والشهادة والفتيا ، ونحو ذلك.
يقول تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) وهي استقبال بيت المقدس أولا (إِلَّا لِنَعْلَمَ) ، أي : علما يتعلق به الثواب والعقاب ، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها. ولكن هذا العلم لا يعلق عليه ثوابا ولا عقابا ، لتمام عدله ، وإقامة الحجة على عباده ، بل إذا وجدت أعمالهم ترتب عليها الثواب والعقاب ، أي : شرّعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن (مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) ويؤمن به ، فيتبعه على كل حال ، لأنه عبد مأمور مدبر ، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة ، أنه يستقبل الكعبة ، فالمنصف الذي مقصوده الحق ، إنما يريده ذلك إيمانا ، وطاعة للرسول. وأما من انقلب على عقبيه ، وأعرض عن الحق ، واتبع هواه ، فإنه يزداد كفرا إلى كفره ، وحيرة إلى حيرته ، ويدلي بالحجة الباطلة ، المبنية على شبهة لا حقيقة لها. (وَإِنْ كانَتْ) ، أي : صرفك عنها (لَكَبِيرَةً) ، أي : شاقة (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى