واليسر ، والسعة والضيق ـ ذكر الإنابة الاضطرارية ، التي لا تكون مع الإنسان إلا عند ضيقه وكربه ، فإذا زال عنه الضيق ، نبذها وراء ظهره ، وهذه غير نافعة فقال : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) إلى (يُشْرِكُونَ). (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) مرض ، أو خوف من هلاك ونحوه. (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ونسوا ما كانوا به يشركون في تلك الحال ، لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا الله. (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) فشفاهم من مرضهم ، وآمنهم من خوفهم. (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ينقضون تلك الإنابة ، التي صدرت منهم ، ويشركون به من لا أسعدهم ولا أشقى ، ولا أفقرهم ولا أغنى. وكل هذا ، كفر بما آتاهم الله ، ومنّ به عليهم ، حيث أنجاهم ، وأنقذهم من الشدة ، وأزال عنهم المشقة. فهلا قابلوا هذه النعمة الجليلة ، بالشكر والدوام على الإخلاص له ، في جميع الأحوال؟
[٣٥] (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أي : حجة ظاهرة (فَهُوَ) أي : ذلك السلطان. (يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) ويقول لهم : اثبتوا على شرككم ، واستمروا على شككم ، فإن ما أنتم عليه هو الحقّ ، وما دعتكم الرسل إليه باطل. فهل ذلك السلطان ، موجود عندهم ، حتى يوجب لهم شدة التمسك بالشرك؟ أم البراهين العقلية والسمعية ، والكتب السماوية ، والرسل الكرام ، وسادات الأنام ، قد نهوا أشد النهي عن ذلك ، وحذروا من سلوك طرقه الموصلة إليه ، وحكموا بفساد عقل ودين من ارتكبه؟ فشرك هؤلاء بغير حجة ولا برهان ، وإنّما هو أهواء النفوس ، ونزغات الشيطان.
[٣٦] يخبر تعالى ، عن طبيعة أكثر الناس ، في حالي الرخاء والشدة ، أنهم إذا أذاقهم الله منه رحمة ، من صحة ، وغنى ، ونصر ونحو ذلك ، فرحوا بذلك ، فرح بطر ، لا فرح شكر وتبجح بنعمة الله. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي : حال تسوؤهم وذلك (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من المعاصي. (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ييأسون من زوال ذلك الفقر ، والمرض ، ونحوه. وهذا جهل منهم وعدم معرفة.
[٣٧] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ). فالقنوط بعد ما علم أن الخير والشر من الله ، والرزق ، سعته وضيقه ، من تقديره ، ضائع ، ليس له محل. فلا تنظر أيها العاقل لمجرد الأسباب ، بل اجعل نظرك لمسببها ، ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فهم الّذين يعتبرون ببسط الله الرزق لمن يشاء ، وقبضه. ويعرفون بذلك ، حكمة الله ورحمته ، وجوده ، وجذب القلوب لسؤاله ، في جميع مطالب الرزق.
[٣٨] أي : فأعط القريب منك ـ على حسب قربه وحاجته ـ حقه الذي أوجبه الشارع ، أو حض عليه ، من النفقة الواجبة ، والصدقة ، والهداية ، والبر ، والسّلام ، والإكرام ، والعفو عن زلته ، والمسامحة عن هفوته. وكذلك ، آت المسكين ، الذي أسكنه الفقر والحاجة ، ما تزيل حاجته ، وتدفع به ضرورته ، من إطعامه ، وسقيه وكسوته. (وَابْنَ السَّبِيلِ) الغريب المنقطع ، في غير بلده ، الذي هو مظنة شدة الحاجة ، وأنه لا مال معه ، ولا كسب يدبر نفسه به في سفره. بخلاف الذي في بلده ، فإنه حتى لو لم يكن له مال ، فإنه لا بد ـ في الغالب ـ أن يكون في حرفة ، أو صناعة ونحوها تسد حاجته. ولهذا جعل الله في الزكاة ، حصة للمسكين ، وابن السبيل. (ذلِكَ) أي : إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ) بذلك العمل (وَجْهَ اللهِ) أي : خير غزير ، وثواب كثير ؛ لأنه من أفضل الأعمال الصالحة ، والنفع المتعدي ، الذي وافق محله ، المقرون به الإخلاص. فإن لم يرد به وجه الله ، لم يكن خيرا للمعطي ، وإن كان خيرا ونفعا للمعطى كما قال تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ). مفهومها ، أن هذه الأمور خير ، لنفعها المتعدي ، ولكن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ، فسوف نؤتيه أجرا عظيما. وقوله : (وَأُولئِكَ) الّذين عملوا هذه الأعمال وغيرها لوجه الله (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بثواب الله ، الناجون من عقابه.
[٣٩] ولما ذكر العمل ، الذي يقصد به وجهه ، من النفقات ، ذكر العمل الذي يقصد به مقصد دنيوي فقال :