[٢٣] يقول تعالى : (أَفَرَأَيْتَ) الرجل الضال الذي (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) فما هواه سلكه ، سواء كان يرضي الله ، أم يسخطه. (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) من الله ، أنه لا تليق به الهداية ، ولا يزكو عليها. (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) فلا يسمع ما ينفعه (وَقَلْبِهِ) فلا يعي الخير (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) تمنعه من نظر الحقّ (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) ، أي : لا أحد يهديه وقد سد الله عليه أبواب الهداية ، وفتح له أبواب الغواية. وما ظلمه الله ، ولكن هو الذي ظلم نفسه ، وتسبب لمنع رحمة الله عليه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ما ينفعكم فتسلكوه ، وما يضركم فتجتنبوه.
[٢٤] (وَقالُوا) ، أي : منكرو البعث (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) إن هي إلا عادات ، وجري على رسوم الليل والنهار ، يموت أناس ، ويحيا أناس ، ومن مات فليس براجع إلى الله ، ولا مجازى بعمله. وقولهم هذا صادر عن غير علم (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) فأنكروا المعاد وكذبوا الرسل الصادقين ، من غير دليل دلهم ، ولا برهان.
[٢٥] إن هي إلا ظنون ، واستبعادات خالية عن الحقيقة ، ولهذا قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) ، وهذا جراءة منهم على الله ، حيث اقترحوا هذا الاقتراح ، وزعموا أن صدق رسل الله ، متوقف على الإتيان بآبائهم ، وأنهم لو جاؤوهم بكل آية لم يؤمنوا ، إلا إن اتبعتهم الرسل على ما قالوا.
[٢٦] وهم كذبة فيما قالوا ، وإنّما قصدهم دفع دعوة الرسل ، لا بيان الحقّ ، قال تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٦) وإلا فلو وصل العلم باليوم الآخر إلى قلوبهم ، لعملوا له أعمالا وتهيؤوا له.
[٢٧] يخبر تعالى عن سعة ملكه ، وانفراده بالتصرف والتدبير ، في جميع الأوقات ، وأنه (يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ويجمع الخلائق لموقف القيامة ، يحصل الخسار على المبطلين ، الّذين أتوا بالباطل ، ليدحضوا به الحقّ ، وكانت أعمالهم باطلة ، لأنها متعلقة بالباطل ، فبطلت في يوم القيامة ، اليوم الذي تستبين فيه الحقائق واضمحلت عنهم ، وفاتهم الثواب ، وحصلوا على أليم العقاب.
[٢٨] ثمّ وصف تعالى شدة يوم القيامة وهو له ليحذره الناس ، ويستعد له العباد ، فقال : (وَتَرى) أيها الرائي لذلك اليوم (كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) على ركبها خوفا وذعرا ، وانتظارا لحكم الملك الرحمن. (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) ، أي : إلى شريعة نبيهم ، الذي جاءهم من عند الله ، وهل قاموا بها فيحصل الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها ، فيحصل لهم الخسران. (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فأمة موسى يدعون إلى شريعة موسى ، وأمة عيسى كذلك ، وأمة محمد كذلك ، وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت به. هذا أحد الاحتمالات في الآية ، وهو معنى صحيح في نفسه ، غير مشكوك فيه ، ويحتمل أن المراد بقوله : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) ، أي : إلى كتاب أعمالها ، وما سطر عليها ، من خير وشر ، وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه ، كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).
[٢٩] ويحتمل أن المعنيين كليهما ، مراد من الآية ، ويدل على هذا قوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) ، أي : هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم ، يفصل بالحق الذي هو العدل (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهذا كتاب الأعمال.