أي : جاءتكم رسلي بالآيات البينات ، والحجج الواضحات ، والبراهين الساطعات ، فقامت عليكم حجتي ، وانقطعت حجتكم ، وقدمتم إليّ بما أسلفتم من الأعمال التي وجب جزاؤها.
[٢٩] (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) ، أي : لا يمكن أن يخلف ما قاله الله وأخبر به ، لأنه لا أصدق من الله قيلا ، ولا أصدق حديثا. (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر ، فلا يزاد في سيئاتهم ، ولا ينقص من حسناتهم.
[٣٠] يقول تعالى مخوفا لعباده : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) ، وذلك من كثرة ما ألقي فيها. (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ، أي : لا تزال تطلب الزيادة ، من المجرمين العاصين ، غضبا لربها ، وغيظا على الكافرين. وقد وعدها الله ملأها ، كما قال تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه ، فينزوي بعضها على بعض ، وتقول : قط قط ، قد اكتفيت وامتلأت.
[٣١] (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) ، أي : قربت (لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) بحيث تشاهد وينظر ما فيها ، من النعيم المقيم ، والحبرة والسرور ، وإنما أزلفت وقربت ، لأجل المتقين لربهم ، التاركين للشرك ، كبيره وصغيره ، الممتثلين لأوامر ربهم ، المنقادين له.
[٣٢] ويقال لهم على وجه التهنئة : (هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (٣٢) ، أي : هذه الجنة وما فيها ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، هي التي وعد الله كل أواب ، أي : رجّاع إلى الله ، في جميع الأوقات ، بذكره وحبه ، والاستعانة به ، ودعائه وخوفه ورجائه. (حَفِيظٍ) ، أي : محافظ على ما أمر الله به ، بامتثاله على وجه الإخلاص ، والإكمال له على أتم الوجوه ، حفيظ لحدوده.
[٣٣] (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ) ، أي : خافه على وجه المعرفة بربه ، والرجاء لرحمته ولازم على خشية الله في حال غيبه ، أي : مغيبه عن أعين الناس ، وهذه هي الخشية الحقيقية. وأما خشيته في حال نظر الناس وحضورهم ، فقد تكون رياء وسمعة ، فلا تدل على الخشية ، وإنما الخشية النافعة ، خشيته في الغيب والشهادة. (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) ، أي : وصفه الإنابة إلى مولاه ، وانجذاب دواعيه إلى مراضيه.
[٣٤] ويقال لهؤلاء الأتقياء الأبرار : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) ، أي : دخولا مقرونا بالسلامة من الآفات والشرور ، مأمونا فيه جميع مكاره الأمور ، فلا انقطاع لنعيمهم ، ولا كدر ، ولا تنغيص. (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) الذي لا زوال له ولا موت ، ولا شيء من المكدرات.
[٣٥] (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) ، أي : كل ما تعلقت به مشيئتهم ، فهو حاصل فيها. (وَلَدَيْنا) فوق ذلك (مَزِيدٌ) ، أي : ثواب يمدهم به الرحمن الرحيم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وأعظم ذلك وأجلّه وأفضله ، النظر إلى وجهه الكريم ، والتمتع بسماع كلامه ، والتنعم بقربه ، فنسأله ذلك من فضله.
[٣٦] يقول تعالى ـ مخوفا للمشركين المكذبين للرسول ـ : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) ، أي : أمما كثيرة (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) ، أي : قوة وآثارا في الأرض. ولهذا قال : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) ، أي : بنوا الحصون المنيعة والمنازل الرفيعة ، وغرسوا الأشجار ، وأجروا الأنهار ، وزرعوا ، وعمروا ، ودمروا. فلما كذبوا رسل الله ، وجحدوا آياته ، أخذهم الله بالعقاب الأليم ، والعذاب الشديد. (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) ، أي : لا مفر لهم من عذاب الله ، حين نزل بهم ،