فإن قلت : سلّمنا أنّ البقاء على التقليد تقليد ، وأنّ استمرار الأخذ أخذ ، لكن ندّعي أنّ القول ليس قول الميّت ، بل الحيّ ، فإنّ صدور القول عنه لمّا كان في حال الحياة فلا جرم من كونه منتسبا إلى الحيّ ؛ إذ الميّت ليس بقائل بصدور شيء عنه.
قلنا : فلا معنى حينئذ لقولهم : لا يجوز العمل بقول الميّت حتى في الابتداء ؛ لأنّ القول ينحصر على هذا التقدير في قول الحي. وأيضا ، لا وجه حينئذ لمنع شمول أدلّة التقليد لتقليد الميّت ابتداء ؛ فإنّ الأخذ بقول الميّت حقيقة أخذ بقول الحي مع أنّ المفصّلين معترفون بعدم الشمول.
والحاصل : هذا كلّه في دلالة الإجماعات وأمّا اعتبارها وحجّيتها في المقام ، فقد ظهر ما يدلّ عليه بما لا مزيد عليه : من أنّ هذه الإجماعات الشاهد على صدقها التتبع واعتراف أمثال الشهيد : بأنّه لا قائل من أصحابنا السابقين بجواز تقليد الميّت ، يوجب الكشف القطعي إمّا بدليل دلّ على دعوى واحد من المعتبرين الإجماع في المسألة ، فكيف عن هذه الإجماعات المستفيضة.
ومنها : السيرة فإنّ جريان عادة السلف والخلف على بقاء تقليد المجتهدين بعد موتهم أمر معلوم لا ينبغي أن ينكر وإلاّ لوصل إلينا العدول لتوفّر الدواعي من كثرة ابتلاء الناس بموت المجتهدين ، ولم يعهد إلى الآن من أهالي أعصار الأئمة العدول إلى تقليد الحي بعد موت المجتهد.
وفيه من المنع ما ترى ، لأنّ الناس في زمن الأئمة كانوا بين أصناف ثلاثة :
فمنهم من كان يأخذ معالم دينه من الإمام بلا واسطة.
ومنهم من كان يأخذ بروايات الموثّقين من أصحابهم وبفتاويهم التي هي بمنزلة الرواية ويجتهد فيها.
ومنهم من كان يأخذ منهم الفتوى ويعمل بها تعبّدا.