أمّا الأوّل ؛ فلقيام الدليل والبرهان على وجود حجّة الرحمن ، وهو مستلزم لوجود التكليف في هذه الأزمان ، ولما صحّ من أنّ « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (١) ، ولاستلزامه إهمال الأُمّة المخلّ بالحكمة.
وأمّا الثاني ؛ فلقوله تعالى ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ ) (٢) ، ولقوله في عدّة آيات ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (٣) ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (٤) إلى غير ذلك من الآيات. والخطاب عامّ للمكلّفين ممَّنْ مضى ومن هو آتٍ.
ويظهر من تقرير بعض العلماء سقوط التكليف مع عدم المجتهد ؛ لكونه مشروطاً بالعلم ، ويكون الناس مخاطبين حينئذ بتحصيل العلوم ؛ بناءً على جواز خلوّ زمن الغيبة عن مجتهد ، كما هو أحد القولين في المسألة ، وإذ انجرّ البحث إليها فلا بأس بالخوض فيها ، فنقول :
قد وقع بين الأُصوليّين الخلاف الذي هو في عدم الثمرة عند التحقيق كالخِلَاف (٥) في أنّه هل يجوز خلوّ زمن الغيبة عن مجتهد أو لا؟.
فقيل بعدم جوازه ، ونقل عن شهيد ( الذكرى ) (٦) ، وبه قال جماعة من الحنابلة (٧) ، وقيل بجوازه (٨) ، ونقل عن ظاهر العلّامة في ( نهاية الأُصول ) ، وبه قال جماعة من الشافعية (٩).
احتجّ المانعون بالخبرين المتقدّمين (١٠) وبلزوم ارتفاع التكليف ، أو تكليف ما لا يطاق ، وفسق جميع الأُمّة لإخلالهم بالواجب الكفائي وهو الاجتهاد.
واحتجّ المجوّزون بما روته العامّة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : « إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ، ولكن يقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبقِ [ عالماً (١١) ] اتّخذ الناس رؤساءً جهّالاً ، فسُئلوا فأفتوا الناس
__________________
(١) الكافي ١ : ٥٨ / ١٩ ، وفيه زيادة : « أبداً ». (٢) الذاريات : ٥٦.
(٣) البقرة : ٤٣ ، ١١٠. (٤) آل عمران : ٩٧.
(٥) الخِلَاف : الصَّفصَاف. لسان العرب ٤ : ١٩٢ خلف. (٦) الذكرى : ٣.
(٧) الإحكام في أُصول الأحكام الآمدي ٤ : ٤٥٥. (٨) الإحكام في أُصول الأحكام ٤ : ٤٥٥.
(٩) المستصفى في علم الأُصول : ٣٧٣.
(١٠) انظر ص ١٤٥ ، هامش ٢ ، ٣.
(١١) في المخطوط : ( علم ) ، وما أثبتناه من المصدر.