كلّ مسألة من مسائله لها مدخل في ذلك الاستنباط وتمكّن بذلك من معرفة مسائله وتمييزها عن غيرها تمكّناً تامّاً ، بأن يقول : هذه مسألة خاصّتها استنباط الأحكام الشرعية ، وكلّما كان كذلك فهو مسألة أُصوليّة ، فهذه المسألة منه بلا مرية. فكأنّه قد علم حينئذ ذلك العلم ولو بالمعرفة الإجماليّة ، وليس المراد أن مجرّد تصوّر الرسم يوجب العلم الفعلي وتمييز جميع المسائل ، بل المراد التمكّن منهما ، ولا ينافي عدم حصول التمييز الفعلي في بعض المسائل ، كما أن التمكّن من الاجتهاد لا ينافي وقوع ( لا أدري ) من المجتهد في بعض الموارد ولو لتعارض المآخذ.
وأمّا توقّفه على معرفة الموضوع ؛ فلأنّ العلوم أنّما يمتاز بعضها عن بعض بتمايز موضوعاتها ؛ إمّا حقيقةً كامتياز الفقه عن أُصوله ، أو اعتباراً كامتياز كلّ من النحو والصرف والمعاني والبيان عن الآخر ، مع أنّ البحث في كلّ منهما عن الكلمات العربيّة ، إلّا إنّ النحو من حيث الإعراب المتعلّق بأواخرها ، والصرف من حيث نفس أبنيتها من صحّتها وإعلالها وسائر أحوالها ، والمعاني والبيان من حيث فصاحتها وبلاغتها. فلمّا امتاز موضوع كلّ منها عن موضوع الآخر تميّزت هي أيضاً كذلك ، وصار كلّ منها فنّاً منفرداً.
ولعلّ السرّ في ذلك أنّه لمّا كان الغرض الأقصى من معرفة العلوم ، والمقصد الأسنى من تلك الرسوم ، إنّما هو بيان أحوال الأشياء على ما هي عليه ، ومعرفتها كذلك للّذي به كمال النفس الإنسانية في القوّة الإدراكيّة ، فإذا تعلّق بعض الأحوال بشيء مخصوص ، والآخر بشيء آخر ، كان كلّ منهما علماً برأسه وامتاز عن صاحبه. ولو تعلّق كلّ منهما بشيء واحد من جهة واحدة أو بأشياء متناسبة من جهة واحدة ، صار الجميع علماً واحداً ، ولم تتحقّق المعرفة الحقيقيّة. وحينئذ ، فمتى لم يعرف الموضوع لم يميّز العلم المطلوب ، فلا يكون له فيه بصيرة ، بل ترجع عينُهُ عنه حسيرة.
وأمّا توقّفه على معرفة غايته ووجه الحاجة إليه ؛ فلأنّه لو لم يعلم ذلك لكان طلبه عبثاً