فالعلم العادي يشارك العلم العقلي في عدم قبول حقيقته الواقعيّة ما دامت موجودة لاحتمال الخلاف ، ويفارقه في أنّ الحاكم بامتناع الخلاف في الثاني هو العقل وفي الأوّل هو العادة لا غير.
فما اشتهر في الألسنة والأفواه من أنّ العلوم العاديّة ممّا يحتمل النقيض تعليلا بما في عدا الأوّل من الأمثلة الثلاث المذكورة من تجويز العقل لانقلاب الجبل ذهبا والأواني علماء ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، بعد ملاحظة أنّ حكم العقل لا يخالف حكم العادة في القضيّة الّتي ينظر في حكمها العادة ، فإنّ المأخوذ في ماهيّة العلم هو انتفاء الاحتمال الذهني للخلاف ، على معنى عدم معارضة الإدراك المتعلّق بإحدى طرفي النسبة لاحتمال وقوع الطرف الآخر ولو مرجوحا ، وهذا المعنى حاصل في العلوم العاديّة أيضا بل وفي الأمثلة المذكورة أيضا ، والّذي يوجد فيها من التجويز العقلي إنّما هو تجويز إمكاني ، وإن أبيت إلاّ وأن تسمّيه بالاحتمال فهو احتمال بالمعنى المرادف لقابليّة المحلّ بحسب ذاته ، على معنى أنّ كلاّ من البحر والجبل والأواني بملاحظة ما فيها من الإمكان الذاتي بالنظر إلى قدرته تعالى قابل للانقلاب المذكور وإن لم يكن هذا الانقلاب واقعا في الخارج بمقتضى العادة.
ولا ريب أنّ كون الشيء محتملا للوقوع بمعنى القابليّة غير كونه محتملا له بحسب الذهن ، نظرا إلى أنّ قابليّة الوقوع أعمّ من فعليّة الوقوع ، ومتعلّق الجزم العادي هو عدم الفعليّة وهو لا ينافي الجزم العقلي بالقابليّة لتصادق القضيّتين وعدم مناقضتهما حسبما قرّر في محلّه من اشتراط التناقض بوحدة القضيّتين في القوّة والفعل ، ولذا لا يتحقّق بين عدم كتابة زيد فعلا وكتابته قوّة تناقض حتّى أنّه جاز تعلّق الجزم واليقين بكلتيهما ، وهذا ممّا لا سترة عليه.
فالعلم كائنا ما كان ينافي احتمال خلافه ذهنا مادام نقيض معلومه محكوما عليه بالامتناع ولو عادة ، وإن كان قد يشتبه الحال فيطلق لفظه غفلة من الاحتمال ، أو منشأه على ما يزعم كونه من الصور الذهنيّة خالصا عن الاحتمال وهو بحسب الواقع ليس كذلك ، ومنه ما ادّعى من العلم بحياة زيد الغائب لحظة المحتمل لموته فجأة ، فإنّه ما دام الغفلة عن هذا المنشأ صورة علم لا أنّه علم في الحقيقة ، ولذا مع التفطّن ينكشف مقارنته الاحتمال المركوز في النفس حيث لا قاضي بامتناع وقوع الخلاف وهو الموت من العقل ولا الشرع ولا العادة.