الحال في سائر موارد اللطف الواجب عليه تعالى ، ومقتضى ذلك كون الأدلّة الموضوعة والطرق المنصوبة لإدراك هذه المطالب من باب المقتضيات الّتي يجوز التخلّف عنها باعتبار الامور الخارجة ولو من سوء اختيار المكلّف ، وليس منع هذه الامور عن التأثير من وظيفته ولا خلافه منافيا لغرضه ، مع أنّه يكفي لإثبات وجود الأدلّة وانتصابها آثار الصنع في المصنوعات المرشدة من باب الإنّ إلى وجوب وجود صانع لها جامع للكمالات منزّه عن النقائض ـ كما نطق بدليليّتها قوله عزّ من قائل : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )(١) وقوله تعالى : ( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً )(٢) ـ واستقلال العقل بقبح الظلم عليه تعالى ، وما تواتر من الأنبياء وأوصيائهم من إظهاره المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة بأيديهم تصديقا لهم ، مع ما علم ضرورة من أخبار الأنبياء والأولياء والعلماء بمعاد يوم الجزاء وإجماعهم عليه ، مع قضاء العقل المستقلّ ، بأنّه لولاه لضاع عمل العاملين وضاعت حقوق المظلومين ولساوى أشقى الأشقياء وأفضل الأنبياء لعدم حصول ما يصلح للجزاء في الدنيا مع إقبال الدنيا إلى الفجّار بقدر إدبارها عن الأخيار ، مع أنّ المانع لم يذكر سندا لمنعه حتّى ينظر فيه إلاّ أنّه قال : « خصوصا ونحن نرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد من زمن وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ويبعد أن يكون واحد منهم مكابرا » وهذا في الحقيقة لنا لا علينا ، لأنّ اختلاف المختلفين في الأديان والعقائد إنّما ينشأ عن اختلاف الأدلّة الّتي هي في طرف الباطل من كلّ مسألة شبهات ومغالطات ، والمحقّ من كلّ فرقة في كلّ مسألة واحد وله أدلّة من العقل والسمع ، مع أنّ موضوع المسألة على ما عرفت هو المجتهد في العقليّات وهو المستفرغ وسعه في تحصيل المعارف ولا يكون إلاّ عن نظر واستدلال.
وإن اريد به وصف قاطعيّته (٣) فيكفي في إثبات ذلك الوصف أنّ التكليف بالعلم في المعارف ـ على ما سنقرّره ـ لا يتمّ إلاّ بكون الأدلّة الموجودة والطرق المنصوبة فيها كافية في العلم صالحة لإفادته فيها لمن يراعي حقّ النظر فيها ، وفي الآيات الواردة في ذمّ مقلّدة الكفّار ومتّبعي الظنّ منهم على اختلاف فرقهم غنية في إثبات وقوع التكليف فيها بالعلم
__________________
(١) الشورى : ٥٤.
(٢) الطلاق : ١٢.
(٣) عطف على قوله : « أنّ القاطع المحكوم بفقدانه إن اريد به ذات الدليل الخ ».