و ( لَمْ يَلِدْ ) برهان ( لِمَ ) حتّى إذا كمل انتقل إلى برهان ( إن ) وهو ( لَمْ يُولَدْ ) ؛ ولذلك أشار مولانا الحسين عليهالسلام : بقوله : « أمرتَ بالرجوع إلى الآثار ، فانقلني إليك منها نقيّ السر من الأغيار » (١).
فالرجوع إلى الآثار هو برهان ( لم ) ، والانتقال برهان ( إن ) ، والأوّل هو السفر الثاني من الأسفار الثلاثة.
والثاني : هو أن رؤساء الفلاسفة من الزنادقة والصوفيّة فتنتهم أعظم الفتن ، وشبهتهم أعضل الشبه حيث زعموا أن الخلق من الحقّ كالموج من البحر والثوب من الغزل ، وسيعود الخلق إلى الحقّ ، وكلّ ما في الوجود شؤون الحقّ ومراتب ظهوره وتنزّلاته ، فليس في الوجود إلّا الحقّ وشؤونه ، وسبحان الله عما يصفون.
فالآية اقتضت الردّ عليهم حيث بدأت بـ ( لَمْ يَلِدْ ) وهو القوس البدئيّ ، وأُردفت بـ ( لَمْ يُولَدْ ) وهو قوس العود ، فأبطل وصفهم واعتقادهم فيهما معاً حيث زعموا أن الخلق من الحقّ أوّلاً ، والحقّ من الخلق ثانياً ، والترتيب الطبيعيّ المطابق لترتيب الوجود هو الابتداء بذكر قوس البدء ؛ إذ لا يمكن العكس.
الثالث : أنه لم يتوهّم أن واجب الوجود كان من شيء ، بل وقع الوهم بأنّ شيئاً كان منه ، وهو أمر تكاد السماوات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً. فناسب الترتيب أن يبدأ بنفي ما ظهر الوهم فيه ، ثمّ أردفه ببيان أنه الأوّل قبل كلّ شيء ، والواحد بلا مثل ، والصمد الذي إليه تصمد الأشياء بأجمعها.
الرابع : أنه لمّا دلّ على وحدانيّته من كلّ جهة ، وعلى صمدانيّته كذلك والصمد : الذي لا جوف له (٢) بكلّ معنى ، والذي تصمد إليه الخلائق في جميع الحوائج (٣) ـ
__________________
(١) الإقبال بالأعمال الحسنة : ٣٤٩ وفيه : « إلهي أمرت بالرجوع إلى الآثار ، فأرجعني إليك بكسوة الأنوار وهداية الاستبصار ؛ حتّى أرجِع إليك منها كما دخلت إليك منها مصون السرّ عن النظر إليها ».
(٢) التوحيد ٩٣ / ٨ ، معاني الأخبار : ٦ / ٧ ، ٧ / ٧ ، لسان العرب ٧ : ٤٠٤ صمد.
(٣) مختار الصحاح : ٣٦٩ صمد ، لسان العرب ٧ : ٤٠٤ صمد.