فالإنسان دائماً أبداً ؛ إمّا مناجٍ ربّه ، أو نفسه الأمّارة والشيطان ، أو الخلق في كلّ طبقة من درج وجوده ، بدءاً وعوداً ، إلّا إنه في كلّ مقام وصقع ينطق بلسان سكّانه ولغتهم ، لا يسكت عنه حتّى ينتقل منه ويسافر إلى غيره بعد استعداده لمعرفة لسانهم والنطق بلغتهم ، فيكون له لسان من نوع ألسنتهم ، ونطق يشبه نطقهم ، ويعرف لغتهم.
فالحقيقة الإنسانية بما هي إنسانية قد علمت الأسماء كلّها ، فهو أبداً ناطق [ بلغة (١) ] صامت عن اخرى ، فلو سكت لسانه اللحمي فهو ناطق بلسانه الفكري أو الوهمي. وهكذا في رتب وجوده وكمالاته وحواسه ، حتّى ربّما كان متكلّماً بحواسّه الظاهرة بما يناسب كلّاً منها من النطق واللسان.
فكلّه ناطق ؛ إمّا بالفعل أو القوّة القريبة أو البعيدة ، فليس في جميع الموجودات من هو كذلك غيره ، وإن لم يخل شيء منها من شيء من فاضل كمالاته ؛ إذ ليس من صنع الحي القيّوم موات من كلّ وجه ؛ لأنه كالغيث. على أن الفرد الكامل من الإنسان ناطق أبداً بكلّ لسان بالفعل. وقد ثبت بالنص (٢) والبرهان أن رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يقرأ ويكتب بكلّ لسان كليّة كاملة شاملة ، [ وكلّما (٣) ] نطق سواه بلسان صمَت عن آخر. وحقيقة العزل أن تصمت عن كلّ ما سوى الله لله ، ولا تنطق إلّا عن الله مخلصاً.
فظهر بهذا أن الناطقية فصل الإنسان ، فإن أراد أهل اللسان والميزان بإدراك الكليات : هذا فنعم ما قالوا ، وإلّا ورد عليهم ما ذكرناه. والظاهر أنّهم إنّما أرادوا أن الإنسان امتاز وتشخّص في أصل وجوده بقابلية إدراك جميع الكليّات ، حتّى كلّي نفسه فـ « من عرف نفسه عرف ربّه » (٤) وليس من هو بهذه المنزلة سواه ، فلا نقض ولا منافاة ، فتأمّل ، وأحسن كما أحسن الله إليك بنطقك ، والله العالم.
__________________
(١) في المخطوط : ( بلغت ).
(٢) بصائر الدرجات : ٢٢٥ ـ ٢٢٧.
(٣) في المخطوط : ( وكلمن ).
(٤) بحار الأنوار ٥٨ : ٩٩.