فتذكير الله للعبد نعمه عليه ظاهرةً وباطنةً ، وإظهار أنوارها في أُفق قلبه ، يؤدّي [ بالعبد (١) ] إلى دوام معرفته ببارئه ، وشدة فاقته إليه على الدوام ، ومعرفته بنفسه وربّه وكمالاته اللائقة به ، وإلى أن جميع المحامد لا يستحقّها أحد سواه ، وأن جميع النعم منه خالصة لا يشوبه نقص ، بل محض رحمته ، وذلك يُعِدّ العبدَ إلى قبول الفيض بعد الفيض ، وإلى المزيد من فضل الله الذي لا ينقطع ، ولشروق أنوار المحبّة والمعرفة في أُفق قلبه ، ولفعليّة العبوديّة.
فظهر أن تذكير الله للعبد بنِعَمه عليه إظهار لأشعّة نور رحمة وجوده في مشكاة قلبه ، فهي أيضاً نعمة اخرى بها يحصل للعبد بَرد اليقين ، وفتق ريق النفس ، وفعليّة العقل وطمأنينة العبوديّة. بل تصوّر النعمة ، وقول : ( الحمد لله ) نعمة يجب شكرها ؛ لما يلزمها من مزيد التفضيل وانشراح الصدر وأُنس القرب ، فالمنّة من الله جود محض ، وكمال بحت.
وأمّا المنّة من العبد فلا بدّ أن تشتمل نوع نقص كأن يرى نفسه منعماً ، وإنّما هي نعمة من الله عليه ، وعلى من أنعم عليه ، أو يرى في نفسه كبراً واستصغاراً لمن أنعم عليه ، ورفعة له ، وضعة للمنعَم عليه ، أو ينسب المنعَم عليه لعدم المروءة.
وبالجملة ، ينظر نفسه ويرى لها فضلاً وعلوّاً ، وينسى من أنعم عليه ، وأن إنعامَهُ وما أنعم به نعمةٌ من الله عليه ، ولا بدّ من استلزام ذلك نوع استنقاص وإهانة وذلّ لمن يمنّ عليه ويذكّره فقره لمن هو مثله.
وأيضاً إذا منّ عبد على عبد بما أولاه وذكّره به ؛ فإن كان لا يستشعر حينئذٍ أن ما أولاه نعمة من الله عليه ، وأن صرْف ما استخلفه فيه مولاه فيما يحبّ نعمة من مولاه أيضاً فهو جاهل محض أو أحمق أو جاحد لنعمة الله ، وهذا كلّه قبيح بالضرورة.
وإن كان مع تصوّر النعمة بذلك من الله عليه وأنّها نعمة يجب شكرها ، فالمنّ منه حينئذٍ محال ؛ إذ لا يرى نفسه منعِماً بحال ، بل منعَماً عليه على كلّ حال ، فإنّ المانّ
__________________
(١) في المخطوط : ( العبد ).