بيّناتك ، وإنّك أنت اللّه الّذى لم تتناه فى العقول فتكون فى مهبّ فكرها مكيّفا (١) ولا فى رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا (٢)
ومنها : قدّر ما خلق فألطف تقديره ، ودبّره فأحكم تدبيره ، ووجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته ، ولم يقصّر دون الانتهاء إلى غايته ، ولم يستصعب إذ أمر بالمضىّ على إرادته (٣) وكيف وإنّما صدرت الأمور عن مشيئته؟ المنشىء أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها ، ولا قريحة غريزة أضمر عليها (٤) ولا تجربه أفادها من حوادث الدّهور (٥) ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور ، فتمّ خلقه وأذعن لطاعته ، وأجاب إلى دعوته ، ولم يعترض دونه ريث المبطىء (٦) ولا أناة المتلكّئ (٧) فأقام من الأشياء أودها (٨) ونهج
__________________
(١) أى : لم تكن متناهيا محدود الأطراف حتى تحيط بك العقول فتكيفك بكيفية مخصوصة
(٢) «مصرفا» أى : تصرفك العقول بأفهامها فى حدودك
(٣) استصعب المركوب : لم ينقد فى السير لراكبه ، وكل مخلوق خلقه اللّه لأمر أراده بلغ الغاية مما أراد اللّه منه ولم يقصر دون ذلك منقادا غير مستصعب
(٤) غريزة : طبيعة ومزاج ، أى : ليس له مزاج كما للمخلوقات الحساسة فينبعث عنه إلى الفعل ، بل هو انفعال بما له بمقتضى ذاته ، لا بأمر عارض
(٥) أفادها : استفادها
(٦) «لم يعترض دونه» أى : دون الخلق وإجابة دعوة اللّه ، والريث : التثاقل عن الأمر ، أى : أجاب الخلق دعوة الخالق فيما وجهت إليه فطرته بدون مهل
(٧) الأناة : تؤدة يمازجها روية فى اختيار العمل وتركه والمتلكئ : المتعلل ، يقول : أجاب العبد ربه طائعا مقهورا بلا تلكؤ
(٨) أودها : اعوجاجها