معرفة واللّه جرّت ندما ، وأعقبت سدما (١) قاتلكم اللّه!! لقد ملأتم قلبى قيحا ، وشحنتم صدرى غيظا ، وجرّعتمونى نغب التّهمام أنفاسا (٢) وأفسدتم علىّ رأيى بالعصيان والخذلان ، حتّى قالت قريش : إنّ ابن أبى طالب رجل شجاع ، ولكن لا علم له بالحرب. للّه أبوهم!! وهل أحد منهم أشدّ لها مراسا ، وأقدم فيها مقاما منّى (٣)؟! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا ذا قد ذرّفت على السّتّين (٤) ، ولكن لا رأى لمن لا يطاع!!
٢٨ ـ ومن خطبة له عليه السّلام
أمّا بعد ، فإنّ الدّنيا قد أدبرت ، وآذنت بوداع ، (٥) وإنّ الآخرة قد
__________________
(١) السدم ـ محركة ـ الهم مع أسف أو غيظ وفعله كفرح ، والقيح : ما فى القرحة من الصديد ، وفعله كباع ، وشحنتم صدرى : ملأتموه
(٢) النغب : جمع نغبة كجرعة وجرع لفظا ومعنى ، والتهمام ـ بالفتح ـ الهم ، وكل تفعال فهو بالفتح ، إلا التبيان والتلقاء فانهما بالكسر. وأنفاسا : أى جرعة بعد جرعة
(٣) مراسا : مصدر مارسه ممارسة ومراسا ، أى : عالجه ، وزاوله وعاناه
(٤) ذرفت على الستين : زدت عليها ، وروى المبرد «نيفت» وهو بمعناه وفى الخطبة روايات أخرى لا تختلف عن رواية الشريف فى المعنى ، وإن اختلفت عنها فى بعض الألفاظ ، انظر الكامل للمبرد
(٥) آذنت : أعلمت ، وإيذانها بالوداع إنما هو بما أودع فى طبيعتها من التقلب والتحول ، فأول نظرة من العاقل إليها تحصل له اليقين بفنائها وانقضائها ، وليس وراء الدنيا إلا الآخرة ، فان كانت الأولى مودعة فالأخرى مشرفة ، والاطلاع : من «اطلع فلان علينا» أتانا فجأة.