حتّى أسهرت لياليهم ، وأظمأت هواجرهم (١) فأخذوا الرّاحة بالنّصب (٢) والرّىّ بالظّمأ ، واستقربوا الأجل ، فبادروا العمل ، وكذّبوا الأمل ، فلاحظوا الأجل. ثمّ إنّ الدّنيا دار فناء وعناء ، وغير وعبر : فمن الفناء أنّ الدّهر موتّر قوسه (٣) لا تخطىء سهامه ، ولا تؤسى جراحه (٤) يرمى الحىّ بالموت والصّحيح بالسّقم ، والنّاجى بالعطب ، آكل لا يشبع ، وشارب لا ينقع (٥) ومن العناء أنّ المرء يجمع ما لا يأكل ، ويبنى ما لا يسكن ، ثمّ يخرج إلى اللّه لا مالا حمل ، ولا بناء نقل ، ومن غيرها (٦) أنّك ترى المرحوم مغبوطا ، والمغبوط مرحوما ، ليس ذلك إلاّ نعيما زلّ (٧) وبؤسا نزل ، ومن عبرها أنّ المرء يشرف على أمله ، فيقطعه حضور أجله ، فلا أمل يدرك ، ولا مؤمّل يترك! فسبحان اللّه!! ما أغرّ سرورها ، وأظمأ ريّها ، وأضحى فيئها (٨) ، لا جاء يردّ (٩) ولا ماض
__________________
(١) أظمأتها بالصيام
(٢) التعب
(٣) فمن أسباب الفناء كون الدهر قد أوتر قوسه ليرمى بها أبناءه
(٤) تؤسى : تداوى ، من «أسوت الجرح» إذا داويته
(٥) لا ينقع ـ كينفع ـ : لا يشتفى من العطش بالشرب
(٦) غيرها ـ بكسر ففتح ـ تقلبها ، والمرحوم : الذى ترق له وترحمه لسوء حاله يصبح مغبوطا على ما تجدد له من نعمة
(٧) من «زل فلان زليلا وزلولا» اذا مر سريعا ، والمراد انتقل. أو هو الفعل اللازم من «أزل إليه نعمة» أسداها
(٨) أضحى كضحا ، ـ كدعا ـ برز للشمس ، والفىء : الظل بعد الزوال ، أو مطلقا
(٩) الجائى : يريد به الموت.