فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل.
والمبايعة أصلها مشتقة من البيع فهي مفاعلة لأن كلا المتعاقدين بائع ، ونقلت إلى معنى العهد على الطاعة والنصرة قال تعالى : يا أيها النبي (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) [الممتحنة : ١٢] الآية وهي هنا بمعنى العهد على النصرة والطاعة. وهي البيعة التي بايعها المسلمون النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية تحت شجرة من السّمر وكانوا ألفا وأربعمائة على أكثر الروايات. وقال جابر بن عبد الله : أو أكثر ، وعنه : أنهم خمس عشرة مائة. وعن عبد الله بن أبي أوفى كانوا ثلاث عشرة مائة. وأول من بايع النبيصلىاللهعليهوسلم تحت الشجرة أبو سنان الأسدي. وتسمّى بيعة الرضوان لقول الله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨].
وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أرسل عثمان بن عفان من الحديبية إلى أهل مكة ليفاوضهم في شأن التخلية بين المسلمين وبين الاعتمار بالبيت فأرجف بأن عثمان قتل فعزم النبي صلىاللهعليهوسلم على قتالهم لذلك ودعا من معه إلى البيعة على أن لا يرجعوا حتى يناجزوا القوم ، فكان جابر بن عبد الله يقول : بايعوه على أن لا يفرّوا ، وقال سلمة بن الأكوع وعبد الله بن زيد : بايعناه على الموت ، ولا خلاف بين هذين لأن عدم الفرار يقتضي الثبات إلى الموت. ولم يتخلف أحد ممن خرج مع النبي صلىاللهعليهوسلم إلى الحديبيّة عن البيعة إلا عثمان إذا كان غائبا بمكة للتفاوض في شأن العمرة ، ووضع النبي صلىاللهعليهوسلم يده اليمنى على يده اليسرى وقال : «هذه يد عثمان» ثم جاء عثمان فبايع ، وإلا الجد بن قيس السلمى اختفى وراء جمله حتّى بايع الناس ولم يكن منافقا ولكنّه كان ضعيف العزم. وقال لهم النبيصلىاللهعليهوسلم أنتم خير أهل الأرض.
وفرع قوله : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) على جملة (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ، فإنه لما كشف كنه هذه البيعة بأنها مبايعة لله ضرورة أنها مبايعة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم باعتبار رسالته عن الله صار أمر هذه البيعة عظيما خطيرا في الوفاء بما وقع عليه التبايع وفي نكث ذلك.
والنكث : كالنقض للحبل. قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) [النحل : ٩٢]. وغلب النكث في معنى النقض المعنوي كإبطال العهد.
والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل. ومضارع (يَنْكُثُ) بضم الكاف في المشهور واتفق عليه القرّاء. ومعنى (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ):