الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه.
وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبي صلىاللهعليهوسلم لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب.
وقرأه الجمهور (تُقَدِّمُوا) بضم الفوقية وكسر الدال مشددة. وقرأه يعقوب بفتحهما على أن أصله : لا تتقدموا. وقال فخر الدين عند الكلام على قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات : ٦] في هذه السورة : إن فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي : إما مع الله أو مع رسوله صلىاللهعليهوسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس وهم على صنفين لأنهم : إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين من الطاعة ، وإمّا أن يكونوا خارجين عنها بالفسق ؛ والداخل في طريقتهم : إما حاضر عندهم ، أو غائب عنهم ، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) وهي تشمل طاعة الله تعالى ، وذكر الرسول معه للإشارة إلى أن طاعة الله لا تعلم إلا بقول الرسول فهذه طاعة للرسول تابعة لطاعة الله. وقال ثانيا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ) النبي [الحجرات : ٢] لبيان الأدب مع النبي صلىاللهعليهوسلم لذاته في باب حسن المعاملة. وقال ثالثا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية للتنبيه على طريقة سلوك المؤمنين في معاملة من يعرف بالخروج عن طريقتهم وهي طريقة الاحتراز منه لأن عمله إفساد في جماعتهم ، وأعقبه بآية (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩]. وقال رابعا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات : ١١] إلى قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩] فنهى عما يكثر عدم الاحتفاظ فيه من المعاملات اللسانية التي قلّما يقام لها وزن. وقال خامسا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) إلى قوله : (تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات : ١٢] ا ه.
ويريد : أن الله ذكر مثالا من كل صنف من أصناف مكارم الأخلاق بحسب ما اقتضته المناسبات في هذه السورة بعد الابتداء بما نزلت السورة لأجله ابتداء ليكون كل مثال منها دالا على بقية نوعه ومرشدا إلى حكم أمثاله دون كلفة ولا سآمة. وقد سلك القرآن لإقامة أهم حسن المعاملة طريق النهي عن أضدادها من سوء المعاملة لأن درء المفسدة مقدم في النظر العقلي على جلب المصلحة.