ألا ترى إلى قول الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب :
مهلا بني عمنا مهلا موالينا |
|
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا |
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم |
|
وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا |
وقول العقيلي وحاربه بنو عمه فقتل منهم :
ونبكي حين نقتلكم عليكم |
|
ونقتلكم كأنّا لا نبالي |
وقول الشّميذر الحارثي :
وقد ساءني ما جرّت الحرب بيننا |
|
بني عمّنا لو كان أمرا مدانيا |
وأقوالهم في هذا لا تحصر عدا ما دون ذلك من التفاخر والتطاول والسخرية واللمز والنبز وسوء الظن والغيبة مما سبق ذكره.
وقد جبر الله صدع العرب بالإسلام كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) فردهم إلى الفطرة التي فطرهم عليها وكذلك تصاريف الدين الإسلامي ترجع بالناس إلى الفطرة السليمة.
ولما أمر الله تعالى المؤمنين بأن يكونوا إخوة وأن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة ونهاهم عما يثلم الأخوة وما يغين على نورها في نفوسهم من السخرية واللمز والتنابز والظن السوء والتجسس والغيبة ، ذكّرهم بأصل الأخوة في الأنساب التي أكدتها أخوة الإسلام ووحدة الاعتقاد ليكون ذلك التذكير عونا على تبصرهم في حالهم ، ولما كانت السخرية واللمز والتنابز مما يحمل عليه التنافس بين الأفراد والقبائل جمع الله ذلك كله في هذه الموعظة الحكيمة التي تدل على النداء عليهم بأنهم عمدوا إلى هذا التشعيب الذي وضعته الحكمة الإلهية فاستعملوه في فاسد لوازمه وأهملوا صالح ما جعل له بقوله : (لِتَعارَفُوا) ثم وأتبعه بقوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) أي فإن تنافستم فتنافسوا في التقوى كما قال تعالى: (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦].
والخبر في قوله : (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني ليتوصل من ذلك إلى إرادة اكتساب الفضائل والمزايا التي ترفع بعض الناس على بعض كناية بمرتبتين. والمعنى المقصود من ذلك هو مضمون جملة (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فتلك الجملة تتنزل من جملة (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) منزلة المقصد من المقدمة والنتيجة من القياس ولذلك فصلت لأنها بمنزلة البيان.