من قبل فنجّاه الله من العذاب بخارق عادة. وإنّما حذف فعل القول لتمثيل قائل القول كالحاضر وقت نزول هذه الآية ، وقد سمع كلامهم وعلم غرورهم فنطق بهذا الكلام ترويعا لهم. وهذا من استحضار الحالة العجيبة كقول مالك بن الريب :
دعاني الهوى من أهل ودّي وجيرتي |
|
بذي الشّيّطين فالتفتّ ورائيا |
فتخيل داعيا يدعوه فالتفت ، وهذا من التخيّل في الكلام البليغ.
وجعل العذاب مظروفا في الريح مبالغة في التسبب لأن الظرفيّة أشدّ ملابسة بين الظرف والمظروف من ملابسة السبب والمسبب. والتدمير : الإهلاك ، وقد تقدم.
و (كُلَّ شَيْءٍ) مستعمل في كثرة الأشياء فإن (كلّا) تأتي كثيرا في كلامهم بمعنى الكثرة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) في سورة يونس [٩٧].
والمعنى : تدمر ما من شأنه أن تدمره الريح من الإنسان والحيوان والديار.
وقوله : (بِأَمْرِ رَبِّها) حال من ضمير (تُدَمِّرُ). وفائدة هذه الحال تقريب كيفية تدميرها كلّ شيء ، أي تدميرا عجيبا بسبب أمر ربها ، أي تسخيره الأشياء لها فالباء للسببية. وأضيف الرب إلى ضمير الريح لأنها مسخرة لأمر التكوين الإلهي فالأمر هنا هو أمر التكوين.
(فَأَصْبَحُوا) أي صاروا ، وأصبح هنا من أخوات صار. وليس المراد : أن تدميرهم كان ليلا فإنهم دمّروا أياما وليالي ، فبعضهم هلك في الصباح وبعضهم هلك مساء وليلا.
والخطاب في قوله : (لا تَرى) لمن تتأتّى منه الرؤية حينئذ إتماما لاستحضار حالة دمارهم العجيبة حتى كأن الآية نازلة في وقت حدوث هذه الحادثة.
والمراد بالمساكن : آثارها وبقاياها وأنقاضها بعد قلع الريح معظمها. والمعنى : أن الريح أتت على جميعهم ولم يبق منهم أحد من ساكني مساكنهم.
وقوله : (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي مثل جزاء عاد نجزي القوم المجرمين ، وهو تهديد لمشركي قريش وإنذار لهم وتوطئة لقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) [الأحقاف : ٢٦].
وقرأ الجمهور (لا تَرى) بالمثناة الفوقية مبنيا للفاعل وبنصب (مَساكِنُهُمْ) وقرأه عاصم وحمزة وخلف بياء تحتية مبنيا للمجهول وبرفع (مَساكِنُهُمْ) وأجرى على الجمع