في هذه السورة وصف حال المنافقين أعقب ذلك بوصف أجلى مظاهر نفاقهم ، وذلك حين يدعى المسلمون إلى الجهاد فقد يضيق الأمر بالمنافقين إذ كان تظاهرهم بالإسلام سيلجئهم إلى الخروج للقتال مع المسلمين ، وذلك أمر ليس بالهيّن لأنه تعرض لإتلافهم النفوس دون أن يرجو منه نفعا في الحياة الأبدية إذ هم لا يصدقون بها فيصبحوا في حيرة. وكان حالهم هذا مخالفا لحال الذين آمنوا الذي تمنوا أن ينزل القرآن بالدعوة إلى القتال ليلاقوا المشركين فيشفوا منهم غليلهم ، فبهذه المناسبة حكي تمني المؤمنين نزول حكم القتال لأنه يلوح به تمييز حال المنافقين ، ويبدو منه الفرق بين حال الفريقين وقد بين كره القتال لديهم في سورة براءة.
فالمقصود من هذه الآية هو قوله : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) الآية ، وما قبله توطئة له بذكر سببه ، وأفاد تقديمه أيضا تنويها بشأن الذين آمنوا ، وأفاد ذكره مقابلة بين حالي الفريقين جريا على سنن هذه السورة. ومقال الذين آمنوا هذا كان سببا في نزول قوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) [محمد : ٤] ، ولذلك فالمقصود من السورة التي ذكر فيها القتال هذه السورة التي نحن بصددها.
ومعلوم أن قول المؤمنين هذا وقع قبل نزول هذه الآية فالتعبير عنه بالفعل المضارع : إمّا لقصد استحضار الحالة مثل (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨] ، وإما للدلالة على أنهم مستمرون على هذا القول. وتبعا لذلك تكون إذا في قوله : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ظرفا مستعملا في الزمن الماضي لأن نزول السورة قد وقع ، ونظر المنافقين إلى الرسولصلىاللهعليهوسلم هذا النظر قد وقع إذ لا يكون ذمهم وزجرهم قبل حصول ما يوجبه فالمقام دال والقرينة واضحة.
و (لَوْ لا) حرف مستعمل هنا في التمني ، وأصل معناه التخصيص فأطلق وأريد به التمني لأن التمني يستلزم الحرص والحرص يدعو إلى التحضيض.
وحذف وصف (سُورَةٌ) في حكاية قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) لدلالة ما بعده عليه من قوله : (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) لأن قوله (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ، أي كما تمنّوا اقتضى أن المسئول سورة يشرع فيها قتال المشركين. فالمعنى : لو لا نزلت سورة يذكر فيها القتال وفرضه ، فحذف الوصف إيجازا. ووصف السورة ب (مُحْكَمَةٌ) باعتبار وصف آياتها بالإحكام ، أي عدم التشابه وانتفاء الاحتمال كما دلت عليه مقابلة المحكمات بالمتشابهات