وقال : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) [الحاقة : ٢٨]. وقد استعمل هنا في معنى الإشغال والإشغال أعم.
فاستعمل الإغناء الذي هو نفع في معنى الإشغال الأعم على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة إيماء إلى أن المؤمنين يشغلهم عن قرابتهم المشركين فرط النعيم ورفع الدرجات كما دل عليه قوله عقبه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) إلى آخر السورة.
وجملة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) جواب (إذا) ، أي إذا جاءت الصاخة كان الناس صنفين صنف وجوههم مسفرة وصنف وجوههم مغبرة.
وقدم هنا ذكر وجوه أهل النعيم على وجوه أهل الجحيم خلاف قوله في سورة النازعات [٣٧] (فَأَمَّا مَنْ طَغى) ثم قوله : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) [النازعات : ٤٠] إلى آخره لأن هذه السورة أقيمت على عماد التنويه بشأن رجل من أفاضل المؤمنين والتحقير لشأن عظيم من صناديد المشركين فكان حظ الفريقين مقصودا مسوقا إليه الكلام وكان حظ المؤمنين هو الملتفت إليه ابتداء ، وذلك من قوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عبس : ٣] إلى آخره ، ثم قوله : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) [عبس : ٥ ، ٦].
وأما سورة النازعات فقد بنيت على تهديد المنكرين للبعث ابتداء من قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) [النازعات : ٦ ـ ٨] فكان السياق للتهديد والوعيد وتهويل ما يلقونه يوم الحشر ، وأما ذكر حظ المؤمنين يومئذ فقد دعا إلى ذكره الاستطراد على عادة القرآن من تعقيب الترهيب بالترغيب.
وتنكير (وُجُوهٌ) الأول والثاني للتنويع ، وذلك مسوغ وقوعهما مبتدأ.
وإعادة (يَوْمَئِذٍ) لتأكيد الربط بين الشرط وجوابه ولطول الفصل بينهما والتقدير :وجوه مسفرة يوم يفرّ المرء من أخيه إلى آخره.
وقد أغنت إعادة (يَوْمَئِذٍ) عن ربط الجواب بالفاء.
والمسفرة ذات الإسفار ، والإسفار النور والضياء يقال : أسفر الصبح ، إذا ظهر ضوء الشمس في أفق الفجر ، أي وجوه متهللة فرحا وعليها أثر النعيم.
و (ضاحِكَةٌ) أي كناية عن السرور.
و (مُسْتَبْشِرَةٌ) معناه فرحة ، والسين والتاء فيه للمبالغة مثل : استجاب ، ويقال : بشر ،