وضمير الخطاب للمشركين الذين وجه إليهم التقرير بقوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦] ، وهو التفات من طريق الغيبة إلى طريق الخطاب.
والمعطوف عليه وإن كان فعلا مضارعا فدخول (لم) عليه صيّره في معنى الماضي لما هو مقرر من أنّ (لم) تقلب معنى المضارع إلى المضي فلذلك حسن عطف (خَلَقْناكُمْ) على (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ : ٦ ، ٧] والكل تقرير على شيء مضى.
وإنما عدل عن أن يكون الفعل فعلا مضارعا مثل المعطوف هو عليه لأن صيغة المضارع تستعمل لقصد استحضار الصورة للفعل كما في قوله تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] ، فالإتيان بالمضارع في (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦] يفيد استدعاء إعمال النظر في خلق الأرض والجبال إذ هي مرئيات لهم. والأكثر أن يغفل الناظرون عن التأمل في دقائقها لتعوّدهم بمشاهدتها من قبل سنّ التفكر ، فإن الأرض تحت أقدامهم لا يكادون ينظرون فيها بله أن يتفكروا في صنعها ، والجبال يشغلهم عن التفكر في صنعها شغلهم بتجشم صعودها والسير في وعرها وحراسة سوائمهم من أن تضل شعابها وصرف النظر إلى مسالك العدوّ عند الاعتلاء إلى مراقبها ، فأوثر الفعل المضارع مع ذكر المصنوعات الحريّة بدقة التأمل واستخلاص الاستدلال ليكون إقرارهم مما قرروا به على بصيرة فلا يجدوا إلى الإنكار سبيلا.
وجيء بفعل المضي في قوله : (خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) وما بعده لأن مفاعيل فعل (خلقنا) وما عطف عليه ليست مشاهدة لهم.
وذكر لهم من المصنوعات ما هو شديد الاتصال بالناس من الأشياء التي تتوارد أحوالها على مدركاتهم دواما ، فإقرارهم بها أيسر لأن دلالتها قريبة من البديهي.
وقد أعقب الاستدلال بخلق الأرض وجبالها بالاستدلال بخلق الناس للجمع بين إثبات التفرد بالخلق وبين الدلالة على إمكان إعادتهم ، والدليل في خلق الناس على الإبداع العظيم الذي الخلق الثاني من نوعه أمكن في نفوس المستدل عليهم قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١]. وللمناسبة التي قدمنا ذكرها في توجيه الابتداء بخلق الأرض في الاستدلال فهي أن من الأرض يخرج الناس للبعث فكذلك ثني باستدلال بخلق الناس الأول لأنهم الذين سيعاد خلقهم يوم البعث وهم الذين يخرجون من الأرض ، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا