حكاية قول ينادي به يوم القيامة من حضرة القدس على رءوس الأشهاد.
فإذا جريت على ثاني الوجهين المتقدمين في موقع جمل (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨] الآيات ، من أنها محكية بالقول الواقع في قوله تعالى : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين : ١٧] إلى هنا فهذه متصلة بها. والتعبير عنهم بالذين أجرموا إظهار في مقام الإضمار على طريقة الالتفات إذ مقتضى الظاهر أن يقال لهم : إنكم كنتم من الذين آمنوا تضحكون ، وهكذا على طريق الخطاب وإن جريت على الوجه الأول بجعل تلك الجمل اعتراضا ، فهذه الجملة مبدأ كلام متصل بقوله : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) [المطففين : ١٦] واقع موقع بدل الاشتمال لمضمون جملة : (إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) [المطففين : ١٦] باعتبار ما جاء في آخر هذا من قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) فالتعبير بالذين أجرموا إذن جار على مقتضى الظاهر وليس بالتفات.
وقد اتّضح بما قرّرناه تناسب نظم هذه الآيات من قوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨] إلى هنا مزيد اتضاح ، وذلك مما أغفل المفسرون العناية بتوضيحه ، سوى أن ابن عطية أورد كلمة مجملة فقال : «ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول : (فَالْيَوْمَ) على حكاية ما يقال ا ه.
و (إِذا) في المواضع الثلاثة مستعمل للزمان الماضي كقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) [التوبة : ٩٢] وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) [النساء : ٨٣].
والمقصود من ذكره أنه بعد أن ذكر حال المشركين على حدة ، وذكر حال المسلمين على حدة ، أعقب بما فيه صفة لعاقبة المشركين في معاملتهم للمؤمنين في الدنيا ليعلموا جزاء الفريقين معا.
وإصدار ذلك المقال يوم القيامة مستعمل في التنديم والتشميت كما اقتضته خلاصته من قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) إلى آخر السورة.
والافتتاح ب (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بصورة الكلام المؤكد لإفادة الاهتمام بالكلام وذلك كثير في افتتاح الكلام المراد إعلانه ليتوجه بذلك الافتتاح جميع السامعين إلى استماعه للإشعار بأنه خبر مهم. والمراد ب (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) المشركون من أهل مكة وخاصة صناديدهم.