الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم ، أي وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) الآية.
فالشرط في قوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) جملة معترضة وليس متعلقا بالجملة ولا تقييدا لمضمونها إذ ليس المعنى : فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تذكّر إذا لم تنفع الذكرى ، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى ، ولذلك كان قوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] مؤولا بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد ، بل المراد فذكّر الناس كافة إن كانت الذكرى تنفع جميعهم ، فالشرط مستعمل في التشكيك لأن أصل الشرط ب (إن) أن يكون غير مقطوع بوقوعه ، فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر الله بعلمه ، فأبو جهل مدعو للإيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخصّ بالدعوة من يرجى منهم الإيمان دون غيرهم ، والواقع يكشف المقدور.
وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجتلاب حرف (إن) المقتضي عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه ، ولذلك جاء بعده بقوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) فهو استئناف بياني ناشئ عن قوله : (فَذَكِّرْ) وما لحقه من الاعتراض بقوله: (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكّرين.
وهذا معنى قول ابن عباس : تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي ، وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحا لا غبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى (إن) ، ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس : إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني.
ويذّكّر : مطاوع ذكّره. وأصله : يتذكر ، فقلبت التاء ذالا لقرب مخرجيهما ليتأتى إدغامها في الذال الأخرى.
و (مَنْ يَخْشى) : جنس لا فرد معين أي سيتذكر الذين يخشون. والضمير المستتر في (يَخْشى) مراعى فيه لفظ (من) فإنه لفظ مفرد.
وقد نزّل فعل (يَخْشى) منزلة اللازم فلم يقدّر له مفعول ، أي يتذكر من الخشية فكرته وجبلته ، أي من يتوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كل ويتدبر في الدلائل