ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويرخي العنان لهواه وشهوته ، فترمي به في الضلالات ، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإطماع فيتابعهم طوعا أو كرها ، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد.
ويفسر هذا المعنى قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» الحديث ؛ ذلك أن أبويه هما أول من يتولى تأديبه وتثقيفه وهما أكثر الناس ملازمة له في صباه ، فهما اللذان يلقيان في نفسه الأفكار الأولى ، فإذا سلم من تضليل أبويه فقد سار بفطرته شوطا ثم هو بعد ذلك عرضة لعديد من المؤثرات فيه ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ، واقتصر النبي صلىاللهعليهوسلم على الأبوين لأنهما أقوى أسباب الزج في ضلالتهما ، وأشد إلحاحا على ولدهما.
ولم يعرج المفسرون قديما وحديثا على تفسير التقويم بهذا المعنى العظيم فقصروا التقويم على حسن الصورة. وروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي وإبراهيم وأبي العالية ، أو على استقامة القامة. وروي عن ابن عباس ، أو على الشباب والجلادة ، وروي عن عكرمة وابن عباس.
ولا يلائم مقصد السورة إلا أن يتأول بأن ذلك ذكر نعمة على الإنسان عكس الإنسان شكرها فكفر بالمنعم فرد أسفل سافلين ، سوى ما حكاه ابن عطية عن الثعلبي عن أبي بكر بن طاهر (١) أنه قال : «تقويم الإنسان عقله وإدراكه اللذان زيّناه بالتمييز» ولفظه عند القرطبي قريب من هذا مع زيادة يتناول مأكوله بيده وما حكاه الفخر عن الأصم (٢) أن (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان».
وتفيد الآية أن الإنسان مفطور على الخير وأن في جبلته جلب النفع والصلاح لنفسه وكراهة ما يظنّه باطلا أو هلاكا ، ومحبة الخير والحسن من الأفعال لذلك تراه يسر بالعدل والإنصاف ، وينصح بما يراه مجلبة لخير غيره ، ويغيث الملهوف ويعامل بالحسنى ، ويغار على المستضعفين ، ويشمئزّ من الظلم ما دام مجردا عن روم نفع يجلبه لنفسه أو إرضاء شهوة يريد قضاءها أو إشفاء غضب يجيش بصدره ، تلك العوارض التي تحول بينه وبين
__________________
(١) لم أقف على تعيينه وليس يبعد أن يكون هو الأصم.
(٢) الأصم لقب أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان من أصحاب هشام الفوطي من المعتزلة. وقال ابن حجر في «لسان الميزان» : إنه كان من طبقة أبي الهذيل العلاف المعتزلي.