مفعولا ثانيا ل (رَدَدْناهُ) لأنه أجري مجرى أخوات صار.
والمعنى : أن الإنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإيمان بإله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين ، وهل أسفل ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوان الأبكم من بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السّمر ، أو من يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر ، أو من يجحد وجود الصانع وهو يشاهد مصنوعاته ويحس بوجود نفسه قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].
فإن ملت إلى جانب الأخلاق رأيت الإنسان يبلغ به انحطاطه إلى حضيض التسفل ، فمن ملق إذا طمع ، ومن شحّ إذا شجع ، ومن جزع إذا خاف ، ومن هلع ، فكم من نفوس جعلت قرابين للآلهة ، ومن أطفال موءودة ، ومن أزواج مقذوفة في النار مع الأموات من أزواجهن ، فهل بعد مثل هذا من تسفل في الأخلاق وأفن الرأي.
وإسناد الرد إلى الله تعالى إسناد مجازي لأنه يكوّن الأسباب العالية ونظام تفاعلها وتقابلها في الأسباب الفرعية ، حتى تصل إلى الأسباب المباشرة على نحو إسناد مدّ وقبض الظل إليه تعالى في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) إلى قوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) [الفرقان : ٤٥ ، ٤٦] وعلى نحو الإسناد في قول الناس : بنى الأمير مدينة كذا.
ويجوز أن يكون (أَسْفَلَ سافِلِينَ) ظرفا ، أي مكانا أسفل ما يسكنه السافلون ، فإضافة (أَسْفَلَ) إلى (سافِلِينَ) من إضافة الظرف إلى الحالّ فيه ، وينتصب (أَسْفَلَ) ب (رَدَدْناهُ) انتصاب الظرف أو على نزع الخافض ، أي إلى أسفل سافلين ، وذلك هو دار العذاب كقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] فالرد مستعار لمعنى الجعل في مكان يستحقه ، وإسناد الرد إلى الله تعالى على هذا الوجه حقيقي.
وأحسب أن قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) انتزع منه مالك رحمهالله ما ذكره عياض في «المدارك» قال : قال ابن أبي أويس : قال مالك : أقبل عليّ يوما ربيعة فقال لي: من السّفلة يا مالك؟ قلت : الذي يأكل بدينه ، قال لي : فمن سفلة السفلة؟ قلت : الذي يأكل غيره بدينه. فقال : (زه) (١) وصدرني (أي ضرب على صدري يعني استحسانا). وأنّ المشركين كانوا أسفل سافلين لأنهم ضلّلهم كبراؤهم وأئمتهم فسوّلوا لهم
__________________
(١) (زه) بكسر الزاي وهاء ساكنة كلمة تدل على شدة الاستحسان وهي معربة عن الفارسية ، ومنها تحت لفظ الزهرة. أي الاستحسان لأن (زه) تقال مكررة غالبا.