وحاصل المعنى : أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة ، أي العلامة التي وعدنا بها.
وقد جعل ذلك تمهيدا وتوطئة لقوله بعده : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) إلخ.
وإذ اتضح موقع هذه الآية وانقشع إشكالها فلننتقل إلى تفسير ألفاظ الآية.
فالانفكاك : الإقلاع ، وهو مطاوع فكّه إذا فصله وفرقه ويستعار لمعنى أقلع عنه ومتعلق (مُنْفَكِّينَ) محذوف دل عليه وصف المتحدث عنهم بصلة (الَّذِينَ كَفَرُوا) والتقدير : منفكين عن كفرهم وتاركين له ، سواء كان كفرهم إشراكا بالله مثل كفر المشركين أو كان كفرا بالرسول صلىاللهعليهوسلم ، فهذا القول صادر من اليهود الذين في المدينة والقرى التي حولها ويتلقفه المشركون بمكة الذين لم ينقطعوا عن الاتصال بأهل الكتاب منذ ظهرت دعوة الإسلام يستفتونهم في ابتكار مخلص يتسللون به عن ملام من يلومهم على الإعراض عن الإسلام. وكذلك المشركون الذين حول المدينة من الأعراب مثل جهينة وغطفان ، ومن أفراد المتنصرين بمكة أو بالمدينة.
وقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) [آل عمران : ١٨٣] ، وقال عنهم : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] ، وحكى عن النصارى بقوله تعالى حكاية عن عيسى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف : ٦]. وقال عن الفريقين : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ١٠٩] ، وحكى عن المشركين بقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] وقولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥].
ولم يختلف أهل الكتابين في أنهم أخذ عليهم العهد بانتظار نبيء ينصر الدين الحق وجعلت علاماته دلائل تظهر من دعوته كقول التوراة في سفر التثنية : «أقيم لهم نبيئا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه». ثم قولها فيه : «وأما النبي الذي يطغى فيتكلم كلاما لم أوصه أن يتكلم به فيموت ذلك النبي وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو