المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإصرار على الكفر عنادا ، فلنسلك بالخبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبة الخبرية فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قبيل استعمال الخبر في الإنشاء والاستفهام في التوبيخ ونحو ذلك الذي قال فيه التفتازانيّ في «المطول» : إن بيان أنه من أيّ أنواع المجاز هو مما لم يحم أحد حوله. والذي تصدّى السيد الشريف لبيانه بما لا يبقي فيه شبهة.
فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها ، فهو من الحكاية لما كانوا يعدون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل : كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة ، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكاية من صلف المخبر عنه ، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) [التوبة : ٦٤] إذ عبّر بصيغة يحذر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقا ولذلك قال الله تعالى : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا)
فالخبر موجّه لكل سامع ، ومضمومه قول : «كان صدر من أهل الكتاب واشتهر عنهم وعرفوا به وتقرّر تعلّل المشركين به لأهل الكتاب حتى يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا : لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٦ ، ١٥٧].
وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبي صلىاللهعليهوسلم للإسلام ، قال تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) [آل عمران : ١٨٣] الآية.
وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) مصادفا المحزّ فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلىاللهعليهوسلم.
وقريب منه قوله تعالى في أهل الكتاب : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].