يتمكن من تدليته بغرور.
ووصف (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) ب (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) لتقريب تصوير الوسوسة كي يتقيها المرء إذا اعترته لخفائها ، وذلك بأن بيّن أنّ مكان إلقاء الوسوسة هو صدور الناس وبواطنهم فعبّر بها عن الإحساس النفسي كما قال تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وقال تعالى : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦]. وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «الإثم ما حاك في الصدر وتردّد في القلب»، فغاية الوسواس من وسوسته بثّها في نفس المغرور والمشبوك في فخّه ، فوسوسة الشياطين اتصالات جاذبية النفوس نحو داعية الشياطين. وقد قرّبها النبي صلىاللهعليهوسلم في آثار كثيرة بأنواع من التقريب منها : «أنها كالخراطيم يمدها الشيطان إلى قلب الإنسان» وشبهها مرة بالنفث ، ومرة بالإبساس. وفي الحديث : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما».
وإطلاق فعل (يُوَسْوِسُ) على هذا العمل الشيطاني مجاز إذ ليس للشيطان كلام في باطن الإنسان. وأما إطلاقه على تسويل الإنسان لغيره عمل السوء فهو حقيقة. وتعلّق المجرور من قوله : (فِي صُدُورِ النَّاسِ) بفعل (يُوَسْوِسُ) بالنسبة لوسوسة الشيطان تعلق حقيقي ، وأما بالنسبة لوسوسة الناس فهو مجاز عقلي لأن وسوسة الناس سبب لوقوع أثرها في الصدور فكان في كلّ من فعل (يُوَسْوِسُ) ومتعلّقه استعمال اللفظين في الحقيقة والمجاز.
و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيانية بينت (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) بأنه جنس ينحلّ باعتبار إرادة حقيقته ، ومجازه إلى صنفين : صنف من الجنّة وهو أصله ، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول ، وجمع الله هذين الصنفين في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢].
ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاء ما ينجرّ من وسوسة نوع الإنسان ، لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان ، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين ، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطرا وهم بالتعوذ منهم أجدر ، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر ، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر.