ولا يستقيم أن يكون (مِنَ) بيانا للناس إذ لا يطلق اسم (النَّاسِ) على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبعد.
وقدم (الْجِنَّةِ) على (النَّاسِ) هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] لأن خبثاء الناس أشد مخالطة للأنبياء من الشياطين ، لأن الله عصم أنبياءه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢] فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكّى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين ، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره ، قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله.
والجنة : اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن ، فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال : إنسيّ للواحد من الإنس.
وتكرير كلمة (النَّاسِ) في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهار في مقام الإضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى وملكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) [آل عمران : ٧٨].
وأما تكريره المرة الثالثة بقوله : (فِي صُدُورِ النَّاسِ) فهو إظهار لأجل بعد المعاد.
وأما تكريره المرة الرابعة بقوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس ، وذلك غير ما صدق كلمة (النَّاسِ) في المرّات السابقة.
والله يكفينا شر الفريقين ، وينفعنا بصالح الثقلين.
تم تفسير «سورة الناس» وبه تم تفسير القرآن العظيم.
يقول محمد الطاهر ابن عاشور : قد وفيت بما نويت ، وحقق الله ما ارتجيت فجئت بما سمح به الجهد من بيان معاني القرآن ودقائق نظامه وخصائص بلاغته ، مما اقتبس الذهن من أقوال الأئمة ، واقتدح من زند لإنارة الفكر وإلهاب الهمّة ، وقد جئت بما أرجو أن أكون وفّقت فيه للإبانة عن حقائق مغفول عنها ، ودقائق ربما جلت وجوها ولم تجل كنها ، فإن هذا منال لا يبلغ العقل البشري إلى تمامه ، ومن رام ذلك فقد رام والجوزاء