وهال هذا الأمر فرعون وأسقط في يده ، واعتبرها مؤامرة مدبّرة في الخفاء ضدّه ، ورفض أن يصدّق أن القضية قضية إيمان صادق ينبعث من الحجة الواضحة والبرهان القويّ ، تماما ككثير من الطغاة الذين لا يريدون أن يعترفوا بالاستجابات الشعبيّة لقوى التغيير ، من حيث خروجها من واقع الإحساس العميق بالحاجة إلى التغيير ، والخروج من واقع الظلم والطغيان ، فيندفعون إلى التفتيش عن أسباب ظاهرة التمرد عليهم وعلى حكمهم ، في مؤامرات شخصية يحرّكها أعداؤهم. (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) إنه ينكر عليهم أن يؤمنوا قبل أن يأذن لهم ، كأنّ عمليّة الإيمان تحتاج إلى الإذن الفرعوني ، كما يحتاج إليها أي عمل آخر يتعلق بقضايا الإدارة والحياة ... وتلك هي عقليّة الطغاة وسيرتهم في كل زمان ومكان ، عند ما يريدون امتلاك عقول الناس وأفكارهم ، فلا يفكرون إلا بما يقدمونه لهم من أفكار ، ولا يؤمنون إلا بما يدعونهم إليه من عقيدة. فالتفكير ممنوع ، والإيمان محرّم بدون الإذن الرسميّ من قبل السلطة التي تملك العقول ـ كما يخيل لها ـ كما تملك الأجسام والأعمال.
* * *
فرعون يصر على كفره ويتوعد السحرة
(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). وهذه محاولة لتخفيف وقع الصدمة على نفسه ، وحراجة الموقف فيها ، لأنّ ما حدث يشكّل نقطة ضعف في سلطانه ، باعتبار أن المتمرّدين من أتباعه المقرّبين ، فيحاول أن يصوّر لنفسه وللآخرين أن القضية ـ منذ البداية ـ لم تكن تمرّدا عميقا يصدر عن قناعة بالدعوة الجديدة ، أو رفضا للسلطة القديمة بكل ما تمثله من أفكار ، بل كانت مؤامرة مدبرة بين موسى وبين هؤلاء السحرة ،