هذه الوجوه الأربعة. فصار الخطاب مع بيانه مفيدا لليقين بالمراد منه ، وإن لم يكن بيانه متصلا به.
الخامس والخمسون : إن هذا القول الذي قاله أصحاب هذا القانون لم يعرف عن طائفة من طوائف بنى آدم ، ولا طوائف المسلمين ، ولا طوائف اليهود والنصارى ، ولا عن أحد من أهل الملل قبل هؤلاء ، وذلك لظهور العلم بفساده. فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق. فإن بنى آدم يتكلمون ويخاطب بعضهم بعضا مخاطبة ومكاتبة ، وقد أنطق الله تعالى بعض الجمادات وبعض الحيوانات بمثل ما أنطق بنى آدم ، فلم يسترب سامع النطق في حصول العلم واليقين به ، بل كان ذلك عنده من أعظم العلوم الضرورية ، فقالت النملة لأمة النمل (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل : ١٨) فلم يشك النمل ولا سليمان فى مرادها وفهموها يقينا. ولما علم سليمان مرادها يقينا تبسم ضاحكا من قولها. وخاطبه الهدهد ، فحصل للهدهد العلم واليقين بمراد سليمان من كلامه.
وأرسل سليمان الهدية والكتاب ـ وفعل ما حكى الله لما حصل له اليقين بمراد الهدهد من كلامه. وأنطق سبحانه الجبال مع داود بالتسبيح ، وعلّم سليمان منطق الطير ، وأسمع الصحابة تسبيح الطعام مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم (١) ، وأسمع رسوله تسليم الحجر عليه (٢). أفيقول مؤمن أو عاقل إن اليقين لم يحصل للسامع بشيء من مدلول هذا الكلام.
السادس والخمسون : أن أرباب هذا القانون الذين منعوا استفادة اليقين من كلام الله ورسوله مضطرين في العقل الّذي يعارض النقل أشد الاضطراب. فالفلاسفة مع شدة اعتنائهم بالمعقولات أشد الناس اضطرابا في هذا الباب من طوائف أهل
__________________
(١) أخرجه البخاري (٣٥٧٩) من حديث عبد الله بن مسعود وفيه : «ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل».
(٢) أخرجه مسلم في (الفضائل / ٢٢٧٧) من حديث جابر بن سمرة بلفظ : «أنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن».