وتأمل الحكمة في خلق النار على ما هى عليه ، فإنها لو كانت ظاهرة كالماء والهواء لكانت محرقة للعالم وما فيه ؛ ولو كانت كامنة لا سبيل إلى ظهورها لفاتت المصلحة المطلوبة منها ، فاقتضت الحكمة أن جعلت كامنة قابلة للظهور عند الحاجة إليها ولبطلانها عند الاستغناء عنها ، فجعلت مخزونة في محلها تخرج عند الحاجة وتمسك بالمادة من الحطب وغيره ما احتيج إلى بقائها ، تخبأ إذا استغنى عنها ، وخلقت على وضع وتقدير اجتمع فيه الانتفاع بها والسلامة من ضررها ، قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ، نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (الواقعة : ٧١ ـ ٧٣).
الوجه الخامس : إن الرب سبحانه له الكمال المطلق الذي يستحق عليه الحمد سبحانه ، لا يصدر منه إلا ما يحمد عليه ، وحمد الله على نوعين ، حمدا يستحقه لذاته وصفاته وأسمائه الحسنى ، وحمدا يستحقه على أفعاله التى مدارها على الحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والرحمة ؛ فإذا كان محمودا على أفعاله كلها لم يكن فيها مناف للحكمة ؛ إذ لو كان فيها ما هو كذلك لم يكن محمودا عليه ، وهو سبحانه له الملك وله الحمد ، فحمده شامل لما شمله ملكه. ولا يخرج شيء عن حمده كما لا يخرج شيء عن ملكه ؛ يوضحه :
الوجه السادس : إن أدلة حكمته وحمده وأدلة ملكه وقدرته متلازمان لا ينفك أحدها عن الآخر وكل ما دل على عموم قدرته ومشيئته وملكه وتصرفه المطلق ؛ فهو دال على عموم حمده وحكمته. إذ إثبات قدرة وملك بلا حكمة ولا حمد ليس كمالا ؛ وكل ما دل على عموم حكمته وحمده فهو دال على ملكه وقدرته ، فإن الحمد والحكمة إن لم يستلزما كمال القدرة لم يكن فيهما كمال مطلق. وهذا برهان قطعى.
ثم يقال : إن جاز القدح في حكمته وحمده جاز القدح في ملكه وربوبيته بل هو عين القدح في الملك والربوبية. كما أن القدح في ملكه وربوبيته قدح في