لاستقصاء العدد بالياء. وأما نعم الله فهي أكثر وأعظم من أن تحصر أو تعد ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (إبراهيم : ٣٤) قال :
اعلم رحمك الله أن قائل هذه المقالة جاهل بلغة القرآن وبلغة العرب ومعانيها وكلامها وذلك أن الله إذا افتتح الخبر عن نفسه بلفظ الجمع ختم الكلام بلفظ الجمع ، وإذا افتتح الكلام بلفظ الواحد ختم الكلام بلفظ الواحد ، وإنما يعني الخبر عن نفسه وإن كان اللفظ جمعا ، فأما ما كان من لفظ الواحد فهو قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (الإسراء : ٢٣) فامتنح الخبر عن نفسه بلفظ الواحد ، ويمثله ختم الكلام فقال (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقال : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (الإسراء : ٢٤) وقال : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) (الإسراء : ٥٤) أما ما افتتحه بلفظ الجمع فهو قوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) (الإسراء : ٤) فافتتحه بلفظ الجمع ثم ختمه بمثل ما افتتحه به فقال : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) (الإسراء : ٥) وإنما عنى بذلك نفسه لأنها كلمة ملوكية تقولها العرب.
(وروي) أن ابن عباس لقي أعرابيا ومعه ناقة فسأله لمن هذه؟ فقال الأعرابي : لنا ، فقال له ابن عباس كم أنتم؟ فقال أنا واحد ، فقال ابن عباس هكذا قول الله تعالى نحن وخلقنا ، وقضينا ، إنما يعني نفسه والمبهم يرد إلى المحكم ، فكل كلمة في القرآن من لفظ جمع قبلها محكم من التوحيد ترد إليه ، فمن ذلك قوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) يرد إلى قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقوله : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) يرد إلى قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ) وقوله : (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) وكذلك قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) يرد إلى قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) فلما افتتح الكلام بلفظ الجمع فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) قال (أَيْدِينا) ولما افتتح بقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ختم الكلام على ما افتتحه به ، فهذا بيان لقوم يفقهون.