الفضاء ، لأنّه تصوّر مادّي عن أمر هو يفوق المادّة ومتجرّد عنه. وعليه ، فقس كلّ ما جاء في أمثال هذه التعابير.
فلا تتصوّر من الشياطين أجساما على مثال الأناسي والطيور ، ولا رجمها بمثل رمي النشّاب إليها ، ولا مرودها بمثل نفور الوحش ، ولا اسّماعها في محاولة الصعود إلى الملأ الأعلى بالسارق المتسلّق على الحيطان ، ولا قذفها بمثل قذف القنابل والبندقيّات ، ولا الحرس الّذين ملأوا السماء بالجنود المتصاكّة في القلاع. ولا رصدها بالكمين لها على غرار ميادين القتال. إذ كلّ ذلك تشبيه وتمثيل وتقريب في التعبير لأمر غير محسوس إلى الحسّ لغرض التفهيم ، فهو تقريب ذهني ، أمّا الحقيقة فالبون شاسع والشقّة واسعة والمسافة بينهما بعيدة غاية البعد.
قال العلّامة الطباطبائي : إنّ هذه التعابير في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة ، ليتصوّر بها الأمور الخارجة عن محدودة الحسّ في صور المحسوسات للتقريب إلى الأذهان. وهو القائل عزوجل : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)(١) أي لا يتعقّلها ولا يعرف مغزاها إلّا من عرف أنّها أمثال ظاهريّة ضربت للتقريب محضا.
قال : وأمثال هذه التعابير كثير في القرآن كالحديث عن العرش والكرسي واللوح والكتاب وغيرها.
قال : وعلى هذا ، فيكون المراد من السماء الّتي ملأتها الملائكة : عالما ملكوتيّا هو أعلا مرتبة من العالم المشهود ، على مثال اعتلاء السماء الدنيا من الأرض. والمراد من اقتراب الشياطين إليها واستراق السمع والقذف بالشهب : اقترابهم من عالم الملائكة لغرض الاطّلاع على أسرار الملكوت ، وثمّ طردهم بما لا يطيقون تحمّله من قذائف النور. أو محاولتهم لتلبيس الحقّ الظاهر ، وثمّ دحرهم ليعودوا خائبين (٢). (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ)(٣).
والآيات من سورة الجنّ لعلّها إشارة إلى هذا المعنى ، حيث هي ناظرة إلى بعثة نبيّ الإسلام ، وقد أيس الشيطان من أن يعبد وعلا نفيره.
[٢ / ٩٢٩] قال الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام : «ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
(١) العنكبوت ٢٩ : ٤٣.
(٢) الميزان ١٧ : ١٢٤ نقلا مع تصرّف يسير.
(٣) الأنبياء ٢١ : ١٨.