اختيار أبي جعفر الطبري
قال أبو جعفر : فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية الّتي رويت عن ابن عبّاس من رواية الضحّاك الّتي قد قدّمنا ذكرها قبل ، وموافق معنى آخره معناها ؛ وذلك أنّه ذكر في أوّله أنّ الملائكة سألت ربّها : ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فأجابها أنّه تكون له ذرّيّة يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. فقالت الملائكة حينئذ : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ؟) فكان قول الملائكة ما قالت من ذلك لربّها بعد إعلام الله إيّاها أنّ ذلك كائن من ذرّيّة الخليفة الّذي يجعله في الأرض ، فذلك معنى خلاف أوّله معنى خبر الضحّاك الّذي ذكرناه.
وأمّا موافقته إيّاه في آخره ، فهو قولهم في تأويل قوله : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. وأنّ الملائكة قالت إذ قال لها ربّها ذلك ، تبرّيا من علم الغيب : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). وهذا إذا تدبّره ذو الفهم ، علم أنّ أوّله يفسد آخره ، وأنّ آخره يبطل معنى أوّله ؛ وذلك أنّ الله ـ جلّ ثناؤه ـ إن كان أخبر الملائكة أنّ ذرّيّة الخليفة الّذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء ، فقالت الملائكة لربّها : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمّن أخبرها الله عنه أنّه يفسد في الأرض ويسفك الدماء بمثل الّذي أخبرها عنهم ربّها ، فيجوز أن يقال لها فيما طوي عنها من العلوم : إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إيّاكم أنّه كائن من الأمور ، فأخبرتم به ، فأخبرونا بالّذي قد طوى الله عنكم علمه ، كما قد أخبرتمونا بالّذي قد أطلعكم الله عليه.
قال : بل ذلك خلف من التأويل ، ودعوى على الله ما لا يجوز أن يكون له صفة. وأخشى أن يكون بعض نقلة هذا الخبر هو الّذي غلط على من رواه عنه من الصحابة ، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنّكم أدركتموه من العلم بخبري إيّاكم أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، حتّى استجزتم أن تقولوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ). فيكون التوبيخ حينئذ واقعا على ما ظنّوا أنّهم قد أدركوا بقول الله لهم : إنّه يكون له ذرّيّة يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنّه كائن.
وذلك أن الله ـ جلّ ثناؤه ـ وإن كان أخبرهم عمّا يكون من بعض ذرّيّة خليفته في الأرض ما يكون