الإسلام قوّة يحسب حسابها كلّ أحد ؛ ويضطرّ لمصانعتها كثيرا أو قليلا ـ وبخاصّة بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين فيها انتصارا عظيما ـ وفي مقدّمة من كان مضطرّا لمصانعتها نفر من الكبراء ، دخل أهلهم وشيعتهم في الإسلام وأصبحواهم ، ولا بدّ لهم ـ لكي يحتفظوا بمقامهم الموروث بينهم وبمصالحهم كذلك ـ أن يتظاهروا باعتناق الدّين الّذي اعتنقه أهلهم وأشياعهم. ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ ابن سلول الّذي كان قومه ينظّمون له الخزر ليتوّجوه ملكا عليهم قبيل مقدم الإسلام على المدينة. ونجد في أوّل السورة وصفا مطوّلا لهؤلاء المنافقين ، ندرك من بعض فقراته : أنّ المعنيّ به في الغالب هم أولئك الكبراء الذين أرغموا على التّظاهر بالإسلام ، ولم ينسوا بعد ترفّعهم على جماهير الناس ، وتسمية هذه الجماهير بالسفهاء على طريقة المتكبّرين!
وفي ثنايا هذه الحملة على المنافقين ـ الّذين في قلوبهم مرض ـ نجد إشارة إلى شياطينهم ، والظاهر من سياق السورة ومن سياق الأحداث في السيرة : أنّها تعني اليهود ، الذين تضمّنت السورة حملات شديدة عليهم فيما بعد.
ولقد كانت معجزة الإسلام الخالدة : أنّ صفتهم ـ اليهود ـ الّتي دفعهم بها ، هي الملازمة لهم في كلّ أجيالهم ، من قبل الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا. ممّا جعل القرآن يخاطبهم في عهد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كما لو كانوا هم أنفسهم الّذين كانوا على عهد موسى عليهالسلام وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم ، باعتبارهم جبلّة واحدة ، سماتهم هي هي ، ودورهم هوهو ، وموقفهم من الحقّ والخلق هو موقفهم على مدار الزّمان! ومن ثمّ يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى ، إلى خطاب اليهود في المدينة ، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين. ومن ثمّ تبقى كلمات القرآن حيّة كأنّما تواجه موقف الأمّة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها. وتتحدّث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة ، اليوم وغدا ، كما استقبلتها بالأمس تماما!
وكأنّ هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر ، والتحذير الدائم للأمّة المسلمة ، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دسّ وكيد ، وحرب منوّعة المظاهر ، متّحدة الحقيقة!
***