العمران
المدن الحديثة (١) التي اكتشفها الجعيدي لأول مرة في حياته ، لا تمت بصلة إلى المدن العتيقة التي تركها في المغرب ، فهي مدن ذات شوارع فسيحة ومبلطة وسطها خاص لمرور العربات والأكداش والجانب الأيمن والأيسر خاص بالراجلين ، ومع امتدادها تنتشر أشجار مخضرة مصطفة بقصد استحسان المنظر ، وبين كل شجرتين قطعة نحاسية قائمة برأسها فنار كبير يوقد ليلا «... لاشتغال أهل البلد بأمور دنياهم بالليل بكامله كأشغالهم بها بالنهار ...». ولكثرة النشاط التجاري والاقتصادي ونقل السلع.
«... كأن الحرب مشتعلة بينهم وكل يجري حسب جهده وطاقته ... كأن المحلة دخلت البلاد ...» ، وعند الفجر تقريبا تنطلق عملية تنظيف وكنس الشوارع من روث الخيل والغبرة بالماء الذي يجري بسرعة ، وكذلك الحال عند نزول المطر ، لكون الطرق محدبة الشكل تنتهي إلى مجاري المياه ، أما الأزبال المنزلية فلها أماكنها المعينة (٢) وهي مدن ذات بنايات عالية من أربع إلى سبع طبقات ، نوافذها وشرفاتها مفتوحة نحو الخارج بدل الداخل كما كان سائدا في البناء المغربي ، وعند ملتقى الطرق الأربعة توجد النافورات ذات المياه المتدفقة وبعض التماثيل المستعذبة ، وبأسفل العمارات توجد المقاهي والمكاتب والحوانيت التي تعرض التحف البديعة ،
__________________
(١) مثلا «... باريس ذات الحسن الفريد ، الجامعة لما تشتهيه النفس في الأرض على وجه ما تحب وتريد ، إذ هي جنة الدنيا بلا منازع ومأوى الحكماء والعقلاء والنبلاء بلا معارض ...». رحلة الجعيدي :.
(٢) «... قيل لي ذات يوم الذباب لا يوجد في مدينة باريز ، فقلت له وهل يتركون له شيئا من القاذورات التي ينزل عليها ... عدا يوما واحدا رأيت فيه ذبابة واحدة في حانوت جزار ما أنظفها وما أظرفها ...»! ، رحلة الجعيدي :.