ومنها : حرص العلماء على ضبط أقوالهم ومصنّفاتهم ، كما يظهر ذلك من تدوين الكتب وتسطير الأساطير. ويؤيّده أنّ ذلك طريقة السلف والخلف حتى أنّ في بعض الأخبار حثّ على ذلك (١).
ومنها : متابعة بعضهم في المطالب للآخر في الاستدلال والفتوى ، وهو أمر معلوم ، كما يظهر من قولهم : « وتبعه في ذلك غيره » وأمثال ذلك. ونقل بعضهم (٢) أنّ جماعة ممّن تأخّر عن الشيخ كانوا يقلّدونه إلى أن بدا للحلّي الاعتراض على الشيخ في مطالبه ، ففتح باب الاجتهاد بعد ذلك.
ومنها : أنّ المحمدين الثلاث انتزعوا هذه الجوامع العظام من الأصول الأربعمائة وغيرها من الكتب ، ولم يستوفوا ما جاء في كلّ مسألة ولا ذكروه على نحو ما جاء ، بل كانوا إذا أرادوا الاستدلال على مسألة عمدوا إلى بعض ما جاء فيها وبعض ما يعارضه ممّا كان أخصر طريقا ، فذكروه وتركوا ما عدا ذلك قائما على أصوله وإن كان صحيح الإسناد. ومن تتبّع ما بقي من الأصول كالمحاسن عرف صحّة ذلك ، فإنّا وجدناه إذا عنون بابا من الأبواب وذكر فيه مثلا نحوا من عشرين خبرا وكان أكثرها من الصحاح عمد الكليني والشيخ إليها وانتزعوا بعضها وتركوا الباقي مع صحّتها محافظة على الاختصار ، ولو نقلوها برمّتها ، ربما فهموا منها غير ما عقلوه ، وربما عمدوا على الخبر الطويل يشمل على مسائل شتّى من أبواب متفرّقة فقطّعوه ووضعوا كلّ قطعة في الأبواب التي يناسبها ، وربما أرسلوا ما هو مسند اختصارا كما يقع كثيرا ، ومن هنا جاء الإضمار والقطع والإرسال وأنواع الاختلال ، فكان ما صنعوه من أقوى أنواع الاجتهاد ، ومع ذلك فعلماؤنا
__________________
(١) انظر البحار ٢ : ١٤٤ ، باب فضل كتابة الحديث وروايته.
(٢) انظر لؤلؤة البحرين : ٢٧٦ ، الرقم ٩٧.