ومن هنا ينقدح : أنّه لا يضرّنا الاعتراف ببقاء الظنّ نفسه من دون تكامل وتقلّب بالقطع أيضا ، وإن كان بناء أهل الاستدلال على الزوال ؛ ولعلّه لأجل معلوميّة ذلك عند المستدلّ بحيث لم يخطر بباله أنّ عاقلا يذهب إلى بقاء الظن.
فالأولى أن يقال : إنّ الدلائل الظنّية حجّيتها إنّما هي باعتبار الظنّ الحاصل منها للمجتهد الحي ، لكنّه لا يخلو عن مصادرة.
ويدفع الثاني (١) : بأنّ مناط الحجّية إذا كان هو الظنّ كان الحكم يدور مداره ؛ لأنّه يقع وسطا لقياس نتيجته القطعيّة المطلوبة ، ومن الواضح المقرر : أنّ الاستنتاج يحتاج إلى ثبوت الملازمة بين النتيجة وبين الوسط بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن انتفائه انتفاؤه.
بيان ذلك : أنّ الدليل ما كان بينه وبين مدلوله ملازمة واقعية بحيث يلزم من العلم به العلم به ، وهذا في غير الأدلّة الشرعيّة واضح ، وأمّا فيها ففي القطعيات منها أيضا لا إشكال في ثبوت الملازمة بينها وبين نتائجها واقعا ، وأمّا الظنّيات ، كخبر الواحد والشهرة وأمثالها ، فهي في أنفسها ليست من الأدلّة حقيقة ؛ لانتفاء الملازمة بينها وبين المطلوب منها ؛ لكنّها بملاحظة الدليل الثانوي الدالّ على حجيتها من العقل أو النقل صارت حجّة شرعيّة ، إمّا تعبّدا أو باعتبار ما فيها من الظنّ الذي يحصل للمجتهد. ومعنى صيرورتها حجّة دوران النتيجة معها على قياس دوران المطلوب مدار الحدّ الوسط في سائر القياسات مثل ما يقال : زيد متعفّن الأخلاط ، وكلّ متعفّن الأخلاط محموم. فكما أنّ الحكم بالحمّى في زيد يتوقّف على بقاء تعفّن الأخلاط ، كذلك الحكم بحرمة ما ظنّه المجتهد
__________________
(١) أي الاعتراض الثاني لصاحب الوافية المذكور في الصفحة : ٥٧٦.