أحدهما : عدم ضرر ذلك ، فلعلّهم إنّما قالوا ذلك عند ثاني مأكول ، ولعلّ في قوله ( كُلَّما رُزِقُوا ) إشارة إلى التجدّد المخرج لأوّل مرزوق عن ذلك القول ، ولا منافاة.
الثاني : أن يراد بالقبْليّة حالة البدء ، فأخبروا بأنّهم انكشف لهم أنّهم عادوا إلى ما بدؤوا منه ؛ فكلّ شيء عائد إلى ما منه بدأ ، والبداية طبق الغاية ، بل هي هي بوجه ، والغاية علّة فاعليّة الفاعل ، قال الله تعالى : ( كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) (١).
وورد أن الجنّة ما خلت من سكّانها ، وممّا رزقوه من قبل ما رزقوه حين الميثاق ، وقيل لهم ( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ) (٢) فدخل أوّل رزق منها أيضاً.
ومنها أن يراد بضمير مِنْهَا : الجنة ، و ( بِمَا رُزِقُوه مِنْ قَبْلُ ) : ما رزقوه من حقائق العلم والعمل وثمراتهما في الدنيا ، فـ ( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (٣). وإنّما هي أعمالهم ردّت إليهم (٤) ، وإنّما هو العالم وما يخرج منه ، ومن سبّح تسبيحة غرست له شجرة في الجنة ، ولله ملائكة يبنون في الجنة كلّما عمل ابن آدم : كذا ، فإذا أمسك أمسكوا ، وقالوا ننتظر الميرة والمادة. ومن هذا يظهر وجه في قوله تعالى : ( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ ) (٥).
فالأرض هي المعهودة وغراستهم إيّاها (٦) ، فهم الكاملون المستكملون لقواها المستجنّة ، الجامعون لما فيها من المراتب الوجوديّة ، الباسطون فيها العدل ، المطهّرون لها من الشرك ؛ فهم سكّان الجنّة أبداً يتبوّأون منها فنون علومهم وأعمالهم في جميع الطبقات.
ولعلّ في قوله ( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) (٧) إشارة إلى ذلك ، فالأرض جامعة لجميع قوى العالم ورتبه القابلة لجميع آثار الفواعل ، فإنّها نهاية الوجود الحسّيّ.
__________________
(١) الأعراف : ٢٩.
(٢) الأعراف : ١٧٢.
(٣) الطور : ١٦.
(٤) انظر : توحيد المفضل : ٥٠ ، بحار الأنوار ٣ : ٩٠.
(٥) الزمر : ٧٤.
(٦) كذا في المصدر.
(٧) آل عمران : ١٣٦.