أعمارا ، وأبقى آثارا ، وأبعد آمالا ، وأعدّ عديدا ، وأكثف جنودا : تعبّدوا للدّنيا أىّ تعبّد ، وآثروها أىّ إيثار ، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ ، ولا ظهر قاطع (١)؟؟!! فهل بلغكم أنّ الدّنيا سخت لهم نفسا بفدية (٢) أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صحبة؟ بل أرهقتهم بالفوادح (٣) وأوهنتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنّوائب (٤) وعفّرتهم للمناخر (٥) ووطئتهم بالمناسم (٦) وأعانت عليهم ريب المنون ، فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها (٧) وآثرها ، وأخلد لها (٨) حتّى ظعنوا عنها لفراق الأبد (٩) وهل زوّدتهم إلاّ السّغب (١٠) أو أحلّتهم إلاّ الضّنك (١١) أو نوّرت لهم إلاّ الظّلمة (١٢) أو أعقبتهم إلاّ النّدامة؟ فهذه تؤثرون ، أم إليها تطمئنّون ، أم عليها تحرصون؟؟ فبئست الدّار لمن لم يتّهمها ولم يكن فيها على وجل منها ، فاعلموا ـ وأنتم
__________________
(١) ظهر قاطع : راحلة تركب لقطع الطريق
(٢) أى : سخت نفسها لهم بفداء
(٣) أرهقتهم : غشيتهم بالقوادح ـ بالقاف ـ جمع قادح ، وهو : أكال يقع فى الشجر والأسنان ، أى : بما ينهكهم ويمزق أجسادهم وفى نسخة «الفوادح» بالفاء ـ من «فدحه الأمر» إذا أثقله
(٤) ضعضعتهم : ذللتهم
(٥) كبتهم على مناخرهم فى العفر ، وهو التراب
(٦) جمع منسم ، وهو مقدم خف البعير ، أو الخف نفسه.
(٧) دان لها : خضع
(٨) ركن إليها
(٩) أى : فراق مدته لا نهاية لها
(١٠) السغب ـ محركة ـ : الجوع
(١١) الضنك : الضيق
(١٢) «أو نورت لهم ـ الخ» : لم يكن لهم مما ظنوه نورا لها إلا الظلام