قال الشريف : أقول : إنّ فى هذا الكلام الأدنى من مواقع الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان ، وإنّ حظّ العجب منه أكثر من حظّ العجب به ، وفيه ـ مع الحال الّتي وصفنا ـ زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان ، ولا يطّلع فجّها إنسان (١) ، ولا يعرف ما أقول إلاّ من ضرب فى هذه الصّناعة بحقّ ، وجرى فيها على عرق (٢) «وَمٰا يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ»
ومن هذه الخطبة
شغل من الجنّة والنّار أمامه (٣) ساع سريع نجا (٤) ، وطالب بطىء رجا ،
__________________
(١) «لا يطلع» من قولهم : اطلع الأرض ، أى : بلغها ، والفج : الطريق الواسع بين جبلين فى قبل من أحدهما
(٢) العرق : الأصل ، أى : سلك فى العمل بصناعة الفصاحة والصدور عن ملكتها على أصولها وقواعدها
(٣) «شغل» مبنى للمجهول نائب فاعله من ، والجنة والنار مبتدأ خبره أمامه ، والجملة صلة من ، أى : كفى شاغلا أن تكون الجنة والنار أمامك ومن كانت أمامه الجنة والنار ـ على ما وصف اللّه سبحانه ـ فحرى به أن تنفد أوقاته جميعها فى الاعداد للجنة والابتعاد عما عساه يؤدى إلى النار.
(٤) يقسم الناس الى ثلاثة أقسام : الأول : الساعى إلى ما عند اللّه السريع فى سعيه ، وهو الواقف عند حدود الشريعة لا يشغله فرضها عن نفلها ، ولا شاقها عن سهلها. والثانى : الطالب البطىء له قلب تعمره الخشية ، وله ميل إلى الطاعة ، لكن ربما قعد به عن السابقين ميل إلى الراحة فيكتفى من العمل بفرضه ، وربما انتظر به غير وقته ، وينال من الرخص حظه ، وربما كانت له هفوات ، ولشهوته نزوات على أنه رجاع إلى ربه ، كثير الندم على ذنبه ، فذلك الذى خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يرجو أن يغفر له. والقسم الثالث : المقصر ، وهو الذى حفظ الرسم ونسى الاسم ، وقال بلسانه إنه مؤمن ، وربما شارك الناس فيما يأتون من أعمال ظاهرة كصوم وصلاة وما شابههما ، وظن أن ذلك كل ما يطلب منه ، ثم لا تورده شهوته