من دونه ومن دون المؤمنين سواكم ، والله تعالى وليّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين ، واعلموا أني أوّل مجيب إلى ما دعوتكم إليه ، وإني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى ، فاحملوا معي ، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره ، ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه ، وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه ، واحملوا بأنفسكم عليه ، واكتفوا الهمّ من فتح هذه الجزيرة بقتله ، فإنهم بعده يخذلون».
«فلما فرغ من تحريض أصحابه على الصبر في قتال لذريق وأصحابه وما وعدهم من الخير الجزيل انبسطت نفوسهم ، وتحقّقت آمالهم ، وهبّت رياح النصر عليهم ، وقالوا له : قد قطعنا الآمال مما يخالف ما عزمت عليه ، فاحضر إليه فإننا معك وبين يديك. فركب وأصحابه فباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح. فلما أصبح الفريقان تكتّبوا (١) وعبّوا جيوشهم ، وحمل لذريق وهو على سريره ؛ وقد حمل على رأسه رواق ديباج يظلّله ، وهو مقبل في غابة من البنود والأعلام ، وبين يديه المقاتلة والسلاح ، وأقبل طارق في أصحابه عليهم الزّرد ، من فوق رؤوسهم العمائم البيض ، وبأيديهم القسيّ العربية ، وقد تقلّدوا السيوف ، واعتقلوا الرماح ، فلما نظر إليهم لذريق حلف وقال : إن هذه الصور هي التي رأيناها ببيت الحكمة ببلدنا ، فداخله منهم الرّعب. فلما رأى طارق لذريق قال : هذا طاغية القوم ، فحمل وحمل أصحابه معه ، فتفرّقت المقاتلة من بيد يدي لذريق ، فخلص إليه طارق ، فضربه بالسيف على رأسه ، فقتله على سريره ، فلمّا رأى أصحابه مصرع صاحبهم اقتحم الجيشان ، وكان النصر للمسلمين ، ولم تقف هزيمة العدو على موضع ، بل كانوا يسلمون بلدا بلدا ومعقلا معقلا».
«ولمّا سمع موسى بن نصير بما حصل من النصرة لطارق عبر الجزيرة بمن معه ، ولحق بمولاه طارق ، فقال له : يا طارق ، إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس ، فاستبحه هنيئا مريئا ، فقال له طارق : أيّها الأمير ، والله لا أرجع عن قصدي هذا ، ما لم أنته إلى البحر المحيط أخوض فيه بفرسي ، يعني البحر الشماليّ الذي تحت بنات نعش ، ولم يزل طارق يفتح وموسى معه إلى أن بلغ إلى جلّيقيّة وهي ساحل البحر المحيط» ، انتهى.
وقال الحافظ الحميدي في كتابه «جذوة المقتبس» : «إن موسى بن نصير نقم على مولاه طارق إذ غزا بغير إذنه ، وهمّ بقتله ، ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه ، فأطلقه وخرج معه إلى الشام» ، انتهى.
__________________
(١) تكتّبوا : تجمعوا كتائب ، والكتائب جمع كتيبة ، وهي الفرقة من الجيش.