البيت وفتح هذا التابوت فظهر ما فيه من هذه الصور فإن هذه الأمة المصوّرة في هذه الشّقّة تدخل الأندلس ، فتغلب عليها وتملكها ، فوجم (١) لذريق وندم على ما فعل ، وعظم غمّه وغمّ العجم بذلك ، وأمر بردّ الأقفال وإقرار الحرس على حالهم ، وأخذ في تدبير الملك ، وذهل عمّا أنذر به.
وكان (٢) من سير أكابر العجم بالأندلس وقوّادهم أن يبعثوا أولادهم الذين يريدون منفعتهم والتنويه بهم إلى بلاد الملك الأكبر بطليطلة ليصيروا في خدمته ، ويتأدّبوا بأدبه ، وينالوا من كرامته ، حتى إذا بلغوا أنكح بعضهم بعضا استئلافا لآبائهم ، وحمل صدقاتهم (٣) ، وتولّى تجهيز إناثهم إلى أزواجهنّ. فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل لذريق على سبتة ، وكانت يومئذ في يد صاحب الأندلس ، وأهلها على النصرانية ، ركب الطريقة بابنة له بارعة في الجمال تكرم عليه ، فلمّا صارت عند لذريق وقعت عينه عليها ، فأعجبته ، وأحبّها حبّا شديدا ، ولم يملك نفسه حتى استكرهها وافتضّها ، فاحتالت حتى أعلمت أباها بذلك سرّا ، بمكاتبة خفيّة ، فأحفظه شأنها جدّا (٤) ، واشتدّت حميّته ، وقال : ودين المسيح لأزيلنّ ملكه (٥) وسلطانه ، ولأحفرنّ تحت قدميه ، فكان امتعاضه من فاحشة ابنته هو السبب في فتح الأندلس بالذي سبق من قدر الله تعالى.
ثم إن يليان ركب بحر الزّقاق من سبتة في أصعب الأوقات في ينير قلب الشتاء ، فصار بالأندلس ، وأقبل إلى طليطلة نحو الملك لذريق ، فأنكر عليه مجيئه في مثل ذلك الوقت ، وسأله عمّا لديه ، وما جاء فيه (٦) ، ولم جاء في مثل وقته؟ فذكر خيرا ، واعتلّ بذكر زوجته ، وشدّة شوقها إلى رؤية بنتها التي عنده ، وتمنّيها لقاءها قبل الموت ، وإلحاحها عليه في إحضارها ، وأنه أحبّ إسعافها ، ورجا بلوغها أمنيتها منه ، وسأل الملك إخراجها إليه ، وتعجيل إطلاقه للمبادرة بها ، ففعل ، وأجاز الجارية ، وتوثّق منها بالكتمان عليه ، وأفضل على أبيها ، فانقلب عنه ، وذكروا أنه لمّا ودّعه قال له لذريق : إذا قدمت علينا فاستفره لنا من الشّذانقات (٧) التي لم تزل تطرفنا بها فإنها آثر جوارحنا لدينا ، فقال له : أيها الملك ، وحقّ المسيح لئن بقيت
__________________
(١) وجم : سكت وعجز عن الكلام من كثرة الحزن والغم.
(٢) في ب : وقد كان.
(٣) صدقاتهم : مهورهم ، وحمل صدقاتهم أي تحملها ودفعها من ماله.
(٤) أحفظه : ملأ قلبه حفيظة. والحفيظة : الغيظ والحقد.
(٥) ملكه و: ساقطة في ب.
(٦) وما جاء فيه : ساقطة في ب.
(٧) الشّذانقات : الصقور.