أصابهم خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه! ـ في عين التّمر ، فادّعوا أنهم رهن وأنهم من بكر بن وائل ، فصار نصير وصيفا لعبد العزيز بن مروان ، فأعتقه ، فمن هذا يختلف فيه ، وقيل : إنه لخميّ ، وعقد له على إفريقية وما خلفها في سنة ثمان وثمانين ، فخرج إلى ذلك الوجه في نفر قليل من المطّوعة ، فلمّا ورد مصر أخرج معه من جندها بعثا ، وأتى إفريقية عمله ، فأخرج من أهلها معه ذوي القوّة والجلد ، وصيّر على مقدّمته طارق بن زياد ، فلم يزل يقاتل البربر ويفضّ جموعهم ، ويفتح بلادهم ومدائنهم ، حتى بلغ طنجة ، وهي قصبة ملك البربر وأمّ مدائنهم ، فحصرها حتى افتتحها ، وقيل : إنها لم تكن افتتحت قبله ، وقيل : افتتحت ثم ارتجعت ، فأسلم أهلها ، وخطّها قيروانا للمسلمين. ثم ساروا إلى مدائن على شطّ البحر فيها عمّال لصاحب الأندلس قد غلبوا عليها وعلى ما حولها ، ورأس تلك المدائن سبتة ، وعليها علج يسمى يليان ، قاتله موسى فألفاه في نجدة وقوّة وعدة فلم يطقه ، فرجع إلى مدينة طنجة فأقام بمن معه ، وأخذ في الغارات على ما حولهم والتضييق عليهم ، والسفن تختلف إليهم بالميرة والأمداد من الأندلس من قبل ملكها غيطشة ، فهم يذبّون عن حريمهم ذبّا شديدا ، ويحمون بلادهم حماية تامّة ، إلى أن هلك غيطشة ملك الأندلس ، وترك أولادا لم يرضهم أهلها للملك ، فاضطرب حبل أهل الأندلس ، ثم تراضوا بعلج من كبارهم يقال له لذريق ، مجرّب شجاع بطل ، ليس من بيت أهل الملك ، إلّا أنه من قوّادهم وفرسانهم ، فولّوه أمرهم ، وكانت طليطلة دار الملك بالأندلس حينئذ ، وكان بها بيت مغلق متحامى الفتح على الأيام ، عليه عدّة من الأقفال يلزمه قوم من ثقات القوط ، قد وكّلوا به لئلّا يفتح ، وقد عهد الأول في ذلك إلى الآخر ، فكلّما قعد منهم ملك أتاه أولئك الموكّلون بالبيت فأخذوا منه قفلا وصيّروه على ذلك الباب من غير أن يزيلوا قفل من تقدّمه ، فلما قعد لذريق هذا ، وكان متهمّما يقظا ذا فكر ، أتاه الحرّاس يسألونه أن يقفل على الباب ، فقال لهم : لا أفعل أو أعلم ما فيه ، ولا بدّ لي من فتحه ، فقالوا له : أيها الملك ، إنه لم يفعل هذا أحد ممّن قبلك ، وتناهوا عن فتحه ، فلم يلتفت إليهم ، ومشى إلى البيت ، فأعظمت ذلك العجم وضرع إليه أكابرهم في الكفّ ، فلم يفعل ، وظنّ أنه بيت مال ، ففضّ الأقفال عنه ، ودخل ، فأصابه فارغا لا شيء فيه ، إلّا تابوتا عليه قفل ، فأمر بفتحه يحسب أن مضمونه يقنعه نفاسة ، فألفاه أيضا فارغا ليس فيه إلّا شقّة (١) مدرجة قد صوّرت فيها صور العرب عليهم العمائم وتحتهم الخيول العراب (٢) متقلّدي السيوف متنكبي القسيّ رافعي الرايات على الرماح ، وفي أعلاها أسطر مكتوبة بالعجمية ، فقرئت فإذا فيها : إذا كسرت الأقفال عن هذا
__________________
(١) الشقّة : الشقّة المستطيلة ، والمدرجة : المطوية.
(٢) الخيل العراب : الكرائم السالمة من الهجنة.