يعلمونه أنّ لذريق كان تابعا وخادما لأبيهم فغلبهم على سلطانه بعد مهلكه وأنهم غير تاركي حقّهم لديه ، ويسألونه الأمان على أن يميلوا إليه عند اللقاء فيمن يتبعهم ، وأن يسلّم إليهم إذا ظفر ضياع والدهم بالأندلس كلها ، وكانت ثلاثة آلاف ضيعة نفائس مختارة ، وهي التي سمّيت بعد ذلك صفايا الملوك ، فأجابهم إلى ذلك ، وعاقدهم عليه ، فالتقى الفريقان من الغد ، فانحاز الأولاد إلى طارق ، فكان ذلك أقوى أسباب الفتح. وكان الالتقاء على وادي لكّة من كورة شذونة ، فهزم الله الطاغية لذريق وجموعه ، ونصر المسلمين نصرا لا كفاء له ، ورمى لذريق نفسه في وادي لكّة وقد أثقلته الجراح (١) ، فلم يعلم له خبر ولم يوجد.
وقيل : نزل طارق بالمسلمين قريبا من عسكر لذريق منسلخ شهر رمضان سنة ٩٢ ، فوجد (٢) لذريق علجا من أصحابه قد عرف نجدته ووثق ببأسه ليشرف على عسكر طارق فيحزر عددهم ويعاين هيئاتهم ومراكبهم ، فأقبل ذلك العلج حتى طلع على العسكر ، ثم شدّ في وجوه من استشرفه (٣) من المسلمين ، فوثبوا إليه ، فولّى منصرفا راكضا ، وفاتهم بسبق فرسه ، فقال العلج للذريق أتتك الصور التي كشف لك عنها التابوت ، فخذ على نفسك ، فقد جاءك منهم من لا يريد إلّا الموت أو إصابة ما تحت قدميك ، قد حرقوا مراكبهم إياسا لأنفسهم من التعلّق بها ، وصفوا في السهل موطّنين أنفسهم على الثبات ، إذ ليس لهم في أرضنا مكان مهرب ، فرعب وتضاعف جزعه ، والتقى العسكران بالبحيرة ، واقتتلوا قتالا شديدا ، إلى أن انهزمت ميمنة لذريق وميسرته ، انهزم بهما أبناء غيطشة ، وثبت القلب بعدهما قليلا وفيه لذريق ، فعذّر أهله (٤) بشيء من قتال ، ثم انهزموا ، ولذريق أمامهم ، فاستمرّت هزيمتهم ، وأذرع المسلمون (٥) القتل فيهم ، وخفي أثر لذريق فلا يدرى أمره ، إلّا أن المسلمين وجدوا فرسه الأشهب الذي فقد وهو راكبه ، وعليه سرج له من ذهب مكلّل بالياقوت والزّبرجد ، ووجدوا أحد خفّيه وكان من ذهب مكلّل بالدّرّ والياقوت والزبرجد (٦) ، وقد ساخ الفرس في طين وحمأة (٧) ، وغرق العلج ، فثبت أحد خفّيه في الطين فأخذ ، وخفي الآخر ، وغاب شخص العلج ولم يوجد حيّا ولا ميتا ، والله أعلم بشأنه.
__________________
(١) في ب : السلاح.
(٢) في ب : فوجّه.
(٣) استشرفه : نظر إليه.
(٤) عذر القوم : قصّروا وأقاموا العذر في تقصيرهم.
(٥) أذرعوا فيهم القتل : زادوا فيه وأفرطوا.
(٦) والزبرجد : ساقطة في ب.
(٧) الحمأة : الطين الأسود الفاسد الرائحة.